المرض
:
نوعان : مرض القلوب ، ومرض الأبدان ، وهما مذكوران في القرآن .
ومرض القلوب : نوعان :
مرض شبهة وشك ، ومرض شهوة وغي ، وكلاهما في القرآن . قال تعالى في
مرض الشبهة : " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا " [ البقرة : 110 ]
وقال تعالى : " وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد
الله بهذا مثلا " [ المدثر : 31 ] وقال تعالى في حق من دعي إلى
تحكيم القرآن والسنة ، فأبى وأعرض : " وإذا دعوا إلى الله ورسوله
ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه
مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم
ورسوله بل أولئك هم الظالمون " [ النور : 48 و 49 ] فهذا مرض
الشبهات والشكوك .
وأما مرض الشهوات ،
فقال تعالى : " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا
تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض " [ الأحزاب : 32 ] . فهذا
مرض شهوة الزنى ، والله أعلم .
فصل
وأما مرض الأبدان ،
فقال تعالى : " ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على
المريض حرج " [ النور : 61 ] ، وذكر مرض البدن في الحج والصوم
والوضوء لسر بديع يبين لك عظمة القرآن ، والإستغناء به لمن فهمه
وعقله عن سواه ، وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة : حفظ الصحة ،
والحمية عن المؤذي ، واستفراغ المواد الفاسدة ، فذكر سبحانه هذه
الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة .
فقال في آية الصوم : " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام
أخر " [ البقرة : 184 ] ، فأباح الفطر للمريض لعذر المرض ،
وللمسافر طلباً لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر
لاجتماع شدة الحركة ، وما يوجبه من التحليل ، وعدم الغذاء الذي
يخلف ما تحلل ، فتخور القوة ، وتضعف ، فأباح للمسافر الفطر حفظاً
لصحته وقوته عما يضعفها .
وقال في آية الحج : " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية
من صيام أو صدقة أو نسك " [ البقرة : 196 ) ، فأباح للمريض ، ومن
به أذى من رأسه ، من قمل ، أو حكة ، أو غيرهما ، أن يحلق رأسه في
الإحرام استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في
رأسه باحتقانها تحت الشعر ، فإذا حلق رأسه ، تفتحت المسام ، فخرجت
تلك الأبخرة منها ، فهذا الإستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي
انحباسه .
والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة : الدم إذا هاج ،
والمني إذا تبيغ ، والبول ، والغائط ، والريح ، والقئ ، والعطاس ،
والنوم ، والجوع ، والعطش . وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء
من الأدواء بحسبه .
وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها ، وهو البخار المحتقن في الرأس على
استفراغ ما هو أصعب منه ، كما هي طريقة القرآن التنبيه بالأدنى على
الأعلى .
وأما الحمية : فقال تعالى في آية الوضوء : " وإن كنتم مرضى أو على
سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء
فتيمموا صعيدا طيبا " [ النساء : 43 ) ، فأباح للمريض العدول عن
الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه ، وهذا تنبيه على
الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج ، فقد أرشد - سبحانه - عباده
إلى أصول الطب ومجامع قواعده ، ونحن نذكر هدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم في ذلك ، ونبين أن هديه فيه أكمل هدي .
فأما طب القلوب ، فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا
سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم ، فإن صلاح القلوب أن
تكون عارفة بربها ، وفاطرها ، وبأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ،
وأحكامه ، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابه ، متجنبة لمناهيه ومساخطه
، ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك ، ولا سبيل إلى تلقيه إلا
من جهة الرسل ، وما يظن من حصول صحة
القلب بدون اتباعهم ، فغلط ممن يظن ذلك ، وإنما ذلك حياة نفسه
البهيمية الشهوانية ، وصحتها وقوتها ، وحياة قلبه وصحته ، وقوته عن
ذلك بمعزل ، ومن لم يميز بين هذا وهذا ، فليبك على حياة قلبه ،
فإنه من الأموات ، وعلى نوره ، فإنه منغمس في بحار الظلمات .
فصل
نوع قد فطر الله
عليه الحيوان ناطقه وبهيمه ، فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب ،
كطب الجوع ، والعطش ، والبرد ، والتعب بأضدادها وما يزيلها .
والثاني : ما يحتاج
إلى فكر وتأمل ، كدفع الأمراض المتشابهة الحادثة في المزاج ، بحيث
يخرج بها عن الإعتدال ، إما إلى حرارة ، أو برودة ، أو يبوسة ، أو
رطوبة ، أو ما يتركب من اثنين منها ، وهي نوعان : إما مادية ، وإما
كيفية ، أعني إما أن يكون بانصباب مادة ، أو بحدوث كيفية ، والفرق
بينهما أن أمراض الكيفية تكون بعد زوال المواد التي أوجبتها ،
فتزول موادها ، ويبقى أثرها كيفية في المزاج .
وأمراض المادة
أسبابها معها تمدها ، وإذا كان سبب المرض معه ، فالنظر في السبب
ينبغي أن يقع أولاً ، ثم في المرض ثانياً ، ثم في الدواء ثالثاً .
أو الأمراض الآلية وهي التي تخرج العضو عن هيئته ، إما في شكل ، أو
تجويف ، أو مجرى ، أو خشونة ، أو ملاسة ، أو عدد ، أو عظم ، أو وضع
، فإن هذه الأعضاء إذا تألفت وكان منها البدن سمي تألفها اتصالاً ،
والخروج عن الإعتدال فيه يسمى تفرق الإتصال ، أو الأمراض العامة
التي تعم المتشابهة والآلية .
والأمراض المتشابهة
: هي التي يخرج بها المزاج عن الإعتدال ، وهذا الخروج يسمى مرضاً
بعد أن يضر بالفعل إضراراً محسوساً .
وهي على ثمانية أضرب
: أربعة بسيطة ، وأربعة مركبة ، فالبسيطة : البارد ، والحار ،
والرطب ، واليابس ، والمركبة : الحار الرطب ، والحار اليابس ،
والبارد الرطب ، والبارد اليابس ، وهي إما أن تكون بانصباب مادة ،
أو بغير انصباب مادة ، وإن لم يضر المرض بالفعل يسمى خروجاً عن
الإعتدال صحة .
وللبدن ثلاثة أحوال
: حال طبيعية ، وحال خارجة عن الطبيعية ، وحال متوسطة بين الأمرين
. فالأولى : بها يكون البدن صحيحاً ، والثانية : بها يكون مريضاً .
والحال الثالثة : هي متوسطة بين الحالتين ، فإن الضد لا ينتقل إلى
ضده إلا بمتوسط ، وسبب خروج البدن عن طبيعته ، إما من داخله ، لأنه
مركب من الحار والبارد ، والرطب واليابس ، وإما من خارج ، فلأن ما
يلقاه قد يكون موافقاً ، وقد يكون غير موافق ، والضرر الذي يلحق
الإنسان قد يكون من سوء المزاج بخروجه عن الإعتدال ، وقد يكون من
فساد في العضو ، وقد يكون من ضعف في القوى ، أو الأرواح الحاملة
لها ، ويرجع ذلك إلى زيادة ما الإعتدال في عدم زيادته ، أو نقصان
ما الإعتدال في عدم نقصانه ، أو تفرق ما الإعتدال في اتصاله ، أو
اتصال ما الإعتدال في تفرقه ، أو امتداد ما الإعتدال في انقباضه ،
أو خروج ذي وضع وشكل عن وضعه وشكله بحيث يخرجه عن اعتداله .
فالطبيب : هو الذي
يفرق ما يضر بالإنسان جمعه ، أو يجمع فيه ما يضره تفرقه ، أو ينقص
منه ما يضره زيادته ، أو يزيد فيه ما يضره نقصه ، فيجلب الصحة
المفقودة ، أو يحفظها بالشكل والشبه ، ويدفع العلة الموجودة بالضد
والنقيض ، ويخرجها ، أو يدفعها بما يمنع من حصولها بالحمية ، وسترى
هذا كله في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم شافياً كافياً بحول
الله وقوته ، وفضله ومعونته .
فصل
فكان من هديه صلى الله عليه وسلم فعل التداوي في نفسه ، والأمر به
لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه ، ولكن لم يكن من هديه ولا هدي
أصحابه استعمال هذه الأدوية المركبة التي تسمى أقرباذين ، بل كان
غالب أدويتهم بالمفردات ، وربما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه ، أو
يكسر سورته ، وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها من العرب
والترك ، وأهل البوادي قاطبة ، وإنما عني بالمركبات الروم
واليونانيون ، وأكثر طب الهند بالمفردات .
وقد اتفق الأطباء على
أنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا يعدل عنه إلى الدواء ، ومتى أمكن
بالبسيط لا يعدل عنه إلى المركب .
قالوا : وكل داء قدر
على دفعه بالأغذية والحمية ، لم يحاول دفعه بالأدوية .
قالوا : ولا ينبغي للطبيب أن يولع بسقي الأدوية ، فإن الدواء إذا
لم يجد في البدن داء يحلله ، أو وجد داء لا يوافقه ، أو وجد ما
يوافقه فزادت كميته عليه ، أو كيفيته ، تشبث بالصحة ، وعبث بها .
وأرباب التجارب من الأطباء طبهم بالمفردات غالباً ، وهم أحد فرق
الطب الثلاث .
والتحقيق في ذلك أن الأدوية من جنس الأغذية ، فالأمة والطائفة التي
غالب أغذيتها المفردات ، أمراضها قليلة جداً ، وطبها بالمفردات ،
وأهل المدن الذين غلبت عليهم الأغذية المركبة يحتاجون إلى الأدوية
المركبة ، وسبب ذلك أن أمراضهم في الغالب مركبة ، فالأدوية المركبة
أنفع لها ، وأمراض أهل البوادي والصحاري مفردة ، فيكفي في مداواتها
الأدوية المفردة ، فهذا برهان بحسب الصناعة الطبية .
ونحن نقول : إن ها هنا أمراً آخر ، نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب
الطرقية والعجائز إلى طبهم ، وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم ، فإن
ما عندهم من العلم بالطب منهم من يقول : هو قياس . ومنهم من يقول :
هو تجربة . ومنهم من يقول : هو إلهامات ، ومنامات ، وحدس صائب .
ومنهم من يقول : أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية ، كما نشاهد
السنانير إذا أكلت ذوات السموم تعمد إلى السراج ، فتلغ في الزيت
تتداوى به ، وكما رؤيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض ، وقد عشيت
أبصارها تأتي إلى ورق الرازيانج ، فتمر عيونها عليها . وكما عهد من
الطير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه ، وأمثال ذلك مما ذكر
في مبادئ الطب .
وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما
ينفعه ويضره ، فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما
عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء ، بل ها هنا من الأدوية
التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم
تصل إليها علومهم وتجاربهم ، وأقيستهم من الأدوية القلبية ،
والروحانية ، وقوة القلب ، واعتماده على الله ، والتوكل عليه ،
والإلتجاء إليه ، والإنطراح والإنكسار بين يديه ، والتذلل له ،
والصدقة ، والدعاء ، والتوبة ، والإستغفار ، والإحسان إلى الخلق ،
وإغاثة الملهوف ، والتفريج عن المكروب ، فإن هذه الأدوية قد جربتها
الأمم على اختلاف أديانها ومللها ، فوجدوا لها من التأثير في
الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ، ولا تجربته ، ولا قياسه
.
وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرة ، ورأيناها تفعل ما لا
تفعل الأدوية الحسية ، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة أدوية
الطرقية عند الأطباء ، وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس
خارجاً عنها ، ولكن الأسباب متنوعة فإن القلب متى اتصل برب
العالمين ، وخالق الداء والدواء ، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما
يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد
منه المعرض عنه ، وقد علم أن الأرواح متى قويت ، وقويت النفس
والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره ، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته
ونفسه ، وفرحت بقربها من بارئها ، وأنسها به ، وحبها له ، وتنعمها
بذكره ، وانصراف قواها كلها إليه ، وجمعها عليه ، واستعانتها به ،
وتوكلها عليه ، أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية ، وأن توجب لها
هذه القوة دفع الألم بالكلية ، ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس ،
وأغلظهم حجاباً ، وأكثفهم نفساً ، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة
الإنسانية ، وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة
داء اللدغة عن اللديغ التي رقي بها ، فقام حتى كأن ما به قلبة .
فهذان نوعان من الطب النبوي ، نحن بحول الله نتكلم عليهما بحسب
الجهد والطاقة ، ومبلغ علومنا القاصرة ، ومعارفنا المتلاشية جداً ،
وبضاعتنا المزجاة ، ولكنا نستوهب من بيده الخير كله ، ونستمد من
فضله ، فإنه العزيز الوهاب .
فصل
روى مسلم في صحيحه : من حديث أبى الزبير ، عن جابر بن عبد الله ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " لكل داء دواء ، فإذا
أصيب دواء الداء ، برأ بإذن الله عز وجل " .
وفي الصحيحين : عن
عطاء ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء " .
وفي مسند الإمام
أحمد : من حديث زياد بن علاقة ، عن أسامة بن شريك ، قال : كنت عند
النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءت الأعراب ، فقالوا : يا رسول الله
! أنتداوى ؟ فقال : " نعم يا عباد الله تداووا ، فإن الله عز وجل
لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد ، قالوا : ما هو ؟ قال
: الهرم " .
وفي لفظ : " إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه
وجهله من جهله " .
وفي المسند : من حديث ابن مسعود يرفعه : " إن الله عز وجل لم
ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه ، وجهله من جهله " وفي
المسند و السنن : عن أبي خزامة ، قال : قلت : يا رسول الله !
أرأيت رقى نسترقيها ، ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل ترد من
قدر الله شيئاً ؟ فقال : " هي من قدر الله " .
فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات ، وإبطال قول من
أنكرها ، ويجوز أن يكون قوله : " لكل داء دواء " ، على عمومه حتى
يتناول الأدواء القاتلة ، والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها ،
ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها ، ولكن طوى علمها عن
البشر ، ولم يجعل لهم إليه سبيلاً ، لأنه لا علم للخلق إلا ما
علمهم الله ، ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء على
مصادفة الدواء للداء ، فإنه لا شئ من المخلوقات إلا له ضد ، وكل
داء له ضد من الدواء يعالج بضده ، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم
البرء بموافقة الداء للدواء ، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده ، فإن
الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية، أو زاد في الكمية على ما
ينبغي ، نقله إلى داء آخر ، ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته ، وكان
العلاج قاصراً ، ومتى لم يقع المداوي على الدواء ، أو لم يقع
الدواء على الداء ، لم يحصل الشفاء ، ومتى لم يكن الزمان صالحاً
لذلك الدواء ، لم ينفع ، ومتى كان البدن غير قابل له ، أو القوة
عاجزة عن حمله ، أو ثم مانع يمنع من تأثيره ، لم يحصل البرء لعدم
المصادفة ، ومتى تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد ، وهذا
أحسن المحملين في الحديث .
والثاني : أن يكون من العام المراد به الخاص ، لا سيما والداخل في
اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه ، وهذا يستعمل في كل لسان ، ويكون
المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء ، فلا يدخل
في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء ، وهذا كقوله تعالى في الريح
التي سلطها على قوم عاد : " تدمر كل شيء بأمر ربها " [ الأحقاف :
25 ] أي كل شئ يقبل التدمير ، ومن شأن الريح أن تدمره ، ونظائره
كثيرة .
ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ، ومقاومة بعضها لبعض ، ودفع
بعضها ببعض ، وتسليط بعضها على بعض ، تبين له كمال قدرة الرب تعالى
، وحكمته ، وإتقانه ما صنعه ، وتفرده بالربوبية ، والوحدانية ،
والقهر ، وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه ، كما أنه الغني
بذاته ، وكل ما سواه محتاج بذاته .
وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي ، وأنه لا ينافي التوكل ، كما
لا ينافيه دفع داء الجوع ، والعطش ، والحر ، والبرد بأضدادها ، بل
لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات
لمسبباتها قدراً وشرعاً ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما
يقدح في الأمر والحكمة ، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى
في التوكل ، فإن تركها عجزاً ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد
القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ، ودفع ما
يضره في دينه ودنياه ، ولا بد مع هذا الإعتماد من مباشرة الأسباب ،
وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ، ولا
توكله عجزاً .
وفيها رد على من أنكر التداوي ، وقال : إن كان الشفاء قد قدر ،
فالتداوي لا يفيد ، وإن لم يكن قد قدر ، فكذلك . وأيضاً ، فإن
المرض حصل بقدر الله ، وقدر الله لا يدفع ولا يرد ، وهذا السؤال هو
الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما أفاضل
الصحابة ، فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا ، وقد
أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما شفى وكفى ، فقال : هذه
الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله ، فما خرج شئ عن قدره ، بل
يرد قدره بقدره ، وهذا الرد من قدره ، فلا سبيل إلى الخروج عن قدره
بوجه ما ، وهذا كرد قدر الجوع ، والعطش والحر ، والبرد بأضدادها ،
وكرد قدر العدو بالجهاد وكل من قدر الله : الدافع ، والمدفوع
والدفع .
ويقال لمورد هذا السؤال : هذا يوجب عليك أن لا تباشر سبباً من
الأسباب التي تجلب بها منفعة ، أو تدفع بها مضرة ، لأن المنفعة
والمضرة إن قدرتا ، لم يكن بد من وقوعهما ، وإن لم تقدرا لم يكن
سبيل إلى وقوعهما ، وفي ذلك خراب الدين والدنيا ، وفساد العالم ،
وهذا لا يقوله إلا دافع للحق ، معاند له ، فيذكر القدر ليدفع حجة
المحق عليه ، كالمشركين الذين قالوا : " لو شاء الله ما أشركنا ولا
آباؤنا " [ الأنعام : 148 ] ، و " لو شاء الله ما عبدنا من دونه من
شيء نحن ولا آباؤنا " [ النحل : 35 ] ، فهذا قالوه دفعاً لحجة الله
عليهم بالرسل .
وجواب هذا السائل أن يقال : بقي قسم ثالث لم تذكره ، هو أن الله
قدر كذا وكذا بهذا السبب ، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب ، وإلا فلا
، فإن قال : إن كان قدر لي السبب ، فعلته ، وإن لم يقدره لي لم
أتمكن من فعله .
قيل : فهل تقبل هذا الإحتجاج من عبدك ، وولدك ، وأجيرك إذا احتج به
عليك فيما أمرته به ، ونهيته عنه فخالفك ؟ فإن قبلته ، فلا تلم من
عصاك ، وأخذ مالك ، وقذف عرضك ، وضيع حقوقك ، وإن لم تقبله ، فكيف
يكون مقبولاً منك في دفع حقوق الله عليك. وقد روي في أثر إسرائيلي
: أن إبراهيم الخليل قال : يا رب ممن الداء ؟ قال : مني . قال :
فممن الدواء ؟ قال : مني. قال : فما بال الطبيب ؟ . قال : رجل
أرسل الدواء على يديه .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " لكل داء دواء" ، تقوية لنفس
المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه ، فإن
المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله ، تعلق قلبه بروح
الرجاء ، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء ، ومتى
قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية ، وكان ذلك سببها لقوة الأرواح
الحيوانية والنفسانية والطبيعية ، ومتى قويت هذه الأرواح ، قويت
القوى التي هي حاملة لها ، فقهرت المرض ودفعته .
وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه
. وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب ، وما جعل الله للقلب
مرضاً إلا جعل له شفاء بضده ، فإن علمه صاحب الداء واستعمله ،
وصادف داء قلبه ، أبرأه بإذن الله تعالى .
فصل
في
هديه صلى الله عليه وسلم في الإحتماء من التخم ، والزيادة في الأكل
على قدر الحاجة ، والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب
في المسند وغيره : عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما ملأ
آدمي وعاءً شراً من بطن ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن
كان لا بد فاعلاً ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه " .
الأمراض نوعان : أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن
حتى أضرت بأفعاله الطبيعية ، وهي الأمراض الأكثرية ، وسببها إدخال
الطعام على البدن قبل هضم الأول ، والزيادة في القدر الذي يحتاج
إليه البدن ، وتناول الأغذية القليلة النفع ، البطيئة الهضم ،
والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة ، فإذا ملأ الآدمي
بطنه من هذه الأغذية ، واعتاد ذلك ، أورثته أمراضاً متنوعة ، منها
بطيء الزوال وسريعه ، فإذا توسط في الغذاء ، وتناول منه قدر الحاجة
، وكان معتدلاً في كميته وكيفيته، كان انتفاع البدن به أكثر من
انتفاعه بالغذاء الكثير .
ومراتب الغذاء ثلاثة : أحدها : مرتبة الحاجة . والثانية : مرتبة
الكفاية . والثالثة : مرتبة الفضلة . فأخبر النبي صلى الله عليه
وسلم : أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه ، فلا تسقط قوته ، ولا تضف معها
، فإن تجاوزها ، فليأكل في ثلث بطنه ، ويدع الثلث الآخر للماء ،
والثالث للنفس ، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب ، فإن البطن إذا
امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب ، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن
النفس ، وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل ،
هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب ، وكسل الجوارح عن الطاعات ،
وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع . فامتلاء البطن من الطعام
مضر للقلب والبدن .
هذا إذا كان دائماً أو أكثرياً . وأما إذا كان في الأحيان ، فلا
بأس به ، فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من
اللبن ، حتى قال : والذي بعثك بالحق ، لا أجد له مسلكاً . وأكل
الصحابة بحضرته مراراً حتى شبعوا .
والشبع المفرط يضعف القوى والبدن ، وإن أخصبه ، وإنما يقوى البدن
بحسب ما يقبل من الغذاء ، لا بحسب كثرته .
ولما كان في الإنسان جزء أرضي ، وجزء هوائي ، وجزء مائي ، قسم
النبي صلى الله عليه وسلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة
.
فإن قيل : فأين حظ الجزء الناري ؟
قيل : هذه مسألة تكلم فيها الأطباء ، وقالوا : إن في البدن جزءاً
نارياً بالفعل ، وهو أحد أركانه واسطقساته .
ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم ، وقالوا : ليس
في البدن جزء ناري بالفعل ، واستدلوا بوجوه :
أحدها : أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى أنه نزل عن الأثير ،
واختلط بهذه الأجزاء المائية والأرضية ، أو يقال : إنه تولد فيها
وتكون ، والأول مستبعد لوجهين ، أحدهما : أن النار بالطبع صاعدة ،
فلو نزلت ، لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم . الثاني : أن
تلك الأجزاء النارية لا بد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير
التي هي في غاية البرد ، ونحن نشاهد في هذا العالم أن النار
العظيمة تنطفئ بالماء القليل ، فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها
بكرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ، ونهاية العظم أولى
بالانطفاء .
وأما الثاني : - وهو أن يقال : إنها تكونت ها هنا - فهو أبعد وأبعد
، لأن الجسم الذي صار ناراً بعد أن لم يكن كذلك ، قد كان قبل
صيرورته إما أرضاً ، وإما ماء ، وإما هواء لانحصار الأركان في هذه
الأربعة ، وهذا الذي قد صار ناراً أولاً ، كان مختلطاً بأحد هذه
الأجسام ، ومتصلاً بها ، والجسم الذي لا يكون ناراً إذا اختلط
بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها ، لا يكون مستعداً لأن ينقلب
ناراً لأنه في نفسه ليس بنار ، والأجسام المختلطة باردة ، فكيف
يكون مستعداً لانقلابه ناراً ؟
فإن قلتم : لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الأجسام ،
وتجعلها ناراً بسبب مخالطتها إياها ؟
قلنا : الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية كالكلام في الأول ، فإن
قلتم : إنا نرى من رش الماء على النورة المطفأة تنفصل منها نار ،
وإذا وقع شعاع الشمس على البلورة ، ظهرت النار منها ، وإذا ضربنا
الحجر على الحديد ، ظهرت النار ، وكل هذه النارية حدثت عند
الإختلاط ، وذلك يبطل ما قررتموه في القسم الأول أيضاً .
قال المنكرون : نحن لا ننكر أن تكون المصاكة الشديدة محدثة للنار ،
كما في ضرب الحجارة على الحديد ، أو تكون قوة تسخين الشمس محدثة
للنار ، كما في البلورة ، لكنا نستبعد ذلك جداً في أجرام النبات
والحيوان ، إذ ليس في أجرامها من الإصطكاك ما يوجب حدوث النار ،
ولا فيها من الصفاء والصقال ما يبلغ إلى حد البلورة ، كيف وشعاع
الشمس يقع على ظاهرها ، فلا تتولد النار
البتة ، فالشعاع الذي يصل إلى باطنها كيف يولد النار ؟
الوجه الثاني : في أصل المسألة : أن الأطباء مجمعون على أن الشراب
العتيق في غاية السخونة بالطبع ، فلو كانت تلك السخونة بسبب
الأجزاء النارية ، لكانت محالاً إذ تلك الأجزاء النارية مع حقارتها
كيف يعقل بقاؤها في الأجزاء المائية الغالبة دهراً طويلاً ، بحيث
لا تنطفئ مع أنا نرى النار العظيمة تطفأ بالماء القليل .
الوجه الثالث : أنه لو كان في الحيوان والنبات جزء ناري بالفعل ،
لكان مغلوباً بالجزء المائي الذي فيه ، وكان الجزء الناري مقهوراً
به ، وغلبة بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضي انقلاب طبيعة
المغلوب إلى طبيعة الغالب ، فكان يلزم بالضرورة انقلاب تلك الأجزاء
النارية القليلة جداً إلى طبيعة الماء الذي هو ضد النار
الوجه الرابع : أن الله سبحانه وتعالى ذكر خلق الإنسان في كتابه في
مواضع متعددة ، يخبر في بعضها أنه خلقه من ماء ، وفي بعضها أنه
خلقه من تراب ، وفي بعضها أنه خلقه من المركب منهما وهو الطين ،
وفي بعضها أنه خلقه من صلصال كالفخار ، وهو الطين الذي ضربته الشمس
والريح حتى صار صلصالاً كالفخار ، ولم يخبر في موضع واحد أنه خلقه
من نار ، بل جعل ذلك خاصية إبليس . وثبت في صحيح مسلم : عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : " خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من
مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم " ، وهذا صريح في أنه خلق مما
وصفه الله في كتابه فقط ، ولم يصف لنا سبحانه أنه خلقه من نار ،
ولا أن في مادته شيئاً من النار .
الوجه الخامس : أن غاية ما يستدلون به ما يشاهدون من الحرارة في
أبدان الحيوان ، وهي دليل على الأجزاء النارية ، وهذا لا يدل ، فإن
أسباب الحرارة أعم من النار ، فإنها تكون عن النار تارة ، وعن
الحركة أخرى ، وعن انعكاس الأشعة ، وعن سخونة الهواء ، وعن مجاورة
النار ، وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضاً ، وتكون عن أسباب أخر ،
فلا يلزم من الحرارة النار .
قال أصحاب النار : من المعلوم أن التراب والماء إذا اختلطا فلا بد
لهما من حرارة تقتضي طبخهما وامتزاجهما ، وإلا كان كل منهما غير
ممازج للآخر ، ولا متحداً به ، وكذلك إذا ألقينا البذر في الطين
بحيث لا يصل إليه الهواء ولا الشمس فسد ، فلا يخلو ، إما أن يحصل
في المركب جسم منضج طابخ بالطبع أو لا ، فإن حصل ، فهو الجزء
الناري ، وإن لم يحصل ، لم يكن المركب مسخناً بطبعه ، بل إن سخن
كان التسخين عرضياً ، فإذا زال التسخين العرضي ، لم يكن الشيء
حاراً في طبعه ، ولا في كيفيته ، وكان بارداً مطلقاً ، لكن من
الأغذية والأدوية ما يكون حاراً بالطبع ، فعلمنا أن حرارتها إنما
كانت ، لأن فيها جوهراً نارياً .
وأيضاً فلو لم يكن في البدن جزء مسخن لوجب أن يكون في نهاية البرد
، لأن الطبيعة إذا كانت مقتضية للبرد ، وكانت خالية عن المعاون
والمعارض ، وجب انتهاء البرد إلى أقصى الغاية ، ولو كان كذلك لما
حصل لها الإحساس بالبرد ، لأن البرد الواصل إليه إذا كان في الغاية
كان مثله ، والشئ لا ينفعل عن مثله ، وإذا لم ينفعل عنه لم يحس به
، وإذا لم يحس به لم يتألم عنه ، وإن كان دونه فعدم الإنفعال يكون
أولى ، فلو لم يكن في البدن جزء مسخن بالطبع لما انفعل عن البرد ،
ولا تألم به . قالوا : وأدلتكم إنما تبطل قول من يقول : الأجزاء
النارية باقية في هذه المركبات على حالها ، وطبيعتها النارية ،
ونحن لا نقول بذلك ، بل نقول : إن صورتها النوعية تفسد عند
الإمتزاج .
قال الآخرون : لم لا يجوز أن يقال : إن الأرض والماء والهواء إذا
اختلطت ، فالحرارة المنضجة الطابخة لها هي حرارة الشمس وسائر
الكواكب ، ثم ذلك المركب عند كمال نضجه مستعد لقبول الهيئة
التركيبية بواسطة السخونة نباتاً كان أو حيواناً أو معدناً ، وما
المانع أن تلك السخونة والحرارة التي في المركبات هي بسبب خواص
وقوى يحدثها الله تعالى عند ذلك الإمتزاج لا من أجزاء نارية بالفعل
؟ ولا سبيل لكم إلى إبطال هذا الإمكان البتة ، وقد اعترف جماعة من
فضلاء الأطباء بذلك .
وأما حديث إحساس البدن بالبرد ، فنقول : هذا يدل على أن في البدن
حرارة وتسخيناً ، ومن ينكر ذلك ؟ لكن ما الدليل على انحصار المسخن
في النار ، فإنه وإن كان كل نار مسخناً ، فإن هذه القضية لا تنعكس
كلية ، بل عكسها الصادق بعض المسخن نار .
وأما قولكم بفساد صورة النار النوعية ، فأكثر الأطباء على بقاء
صورتها النوعية ، والقول بفسادها قول فاسد قد اعترف بفساده أفضل
متأخريكم في كتابه المسمى بالشفا ، وبرهن على بقاء الأركان أجمع
على طبائعها في المركبات . وبالله التوفيق .
فصل
وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواع . . .
أحدها : بالأدوية الطبيعية .
والثاني : بالأدوية
الإلهية .
والثالث : بالمركب من الأمرين .
ونحن نذكر الأنواع الثلاثة من هديه صلى الله عليه وسلم ، فنبدأ
بذكر الأدوية الطبيعية التي وصفها واستعملها ، ثم نذكر الأدوية
الإلهية ، ثم المركبة .
وهذا إنما نشير إليه إشارة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنما بعث هادياً ، وداعياً إلى الله ، وإلى جنته ، ومعرفاً بالله ،
ومبيناً للأمة مواقع رضاه وآمراً لهم بها ، ومواقع سخطه وناهياً
لهم عنها ، ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم ،
وأخبار تخليق العالم ، وأمر المبدأ والمعاد ، وكيفية شقاوة النفوس
وسعادتها ، وأسباب ذلك .
وأما طب الأبدان : فجاء من تكميل شريعته ، ومقصوداً لغيره ، بحيث
إنما يستعمل عند الحاجة إليه ، فإذا قدر على الإستغناء عنه، كان
صرف الهمم والقوى إلى علاج القلوب والأرواح ، وحفظ صحتها ، ودفع
أسقامها ، وحميتها مما يفسدها هو المقصود بالقصد الأول ، وإصلاح
البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع ، وفساد البدن مع إصلاح القلب
مضرته يسيرة جداً ، وهي مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة
، وبالله التوفيق .
ذكر
القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية
فصل
في
هديه في علاج الحمى
ثبت في الصحيحين : عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبى صلى الله
عليه وسلم قال : " إنما الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم ، فأبردوها
بالماء
" .
وقد أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء ، ورأوه منافياً
لدواء الحمى وعلاجها ، ونحن نبين بحول الله وقوته وجهه وفقهه ،
فنقول : خطاب النبي صلى الله عليه وسلم نوعان : عام لأهل الأرض ،
وخاص ببعضهم ، فالأول : كعامة خطابه ، والثاني : كقوله : " لا
تستقبلوا القبلة بغائط ، ولا بول ، ولا تستدبروها ، ولكن شرقوا ،
أو غربوا " فهذا ليس بخطاب لأهل المشرق والمغرب ولا العراق ، ولكن
لأهل المدينة وما على سمتها ، كالشام وغيرها . وكذلك قوله : " ما
بين المشرق والمغرب قبلة
" .
وإذا عرف هذا ، فخطابه في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز ، وما والاهم
، إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية
الحادثة عن شدة حرارة الشمس ، وهذه ينفعها الماء البارد شرباً
واغتسالاً ، فإن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب ، وتنبث منه
بتوسط
الروح
والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن ، فتشتعل فيه اشتعالاً
يضر بالأفعال الطبيعية ، وهي تنقسم إلى قسمين : عرضية : وهي
الحادثة إما عن الورم ، أو الحركة ، أو إصابة حرارة الشمس ، أو
القيظ الشديد ونحو ذلك
.
ومرضية : وهي ثلاثة أنواع ، وهي لا تكون إلا في مادة أولى ، ثم
منها يسخن جميع البدن . فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حمى يوم ،
لأنها في الغالب تزول في يوم ، ونهايتها ثلاثة أيام ، وإن كان مبدأ
تعلقها بالأخلاط سميت عفنية ، وهي أربعة أصناف : صفراوية ،
وسوداوية
،
وبلغمية ، ودموية . وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية ،
سميت حمى دق ، وتحت هذه الأنواع أصناف كثيرة
.
وقد ينتفع البدن بالحمى انتفاعاً عظيماً لا يبلغه الدواء ، وكثيراً
ما يكون حمى يوم ، وحمى العفن سبباً لإنضاج مواد غليظة لم تكن تنضج
بدونها ، وسبباً لتفتح سدد لم يكن تصل إليها الأدوية المفتحة
.
وأما الرمد الحديث والمتقادم ، فإنها تبرئ أكثر أنواعه برءاً
عجيباً سريعاً ، وتنفع من الفالج ، واللقوة ، والتشنج الإمتلائي ،
وكثيراً من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة
.
وقال لي بعض فضلاء الأطباء : إن كثيراً من الأمراض نستبشر فيها
بالحمى ، كما يستبشر المريض بالعافية ، فتكون الحمى فيه أنفع من
شرب الدواء بكثير ، فإنها تنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما يضر
بالبدن ، فإذا أنضجتها صادفها الدواء متهيئة للخروج بنضاجها ،
فأخرجها ،
فكانت
سبباً للشفاء
.
وإذا عرف هذا ، فيجوز أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات
العرضية ، فإنها تسكن على المكان بالإنغماس في الماء البارد، وسقي
الماء البارد المثلوج ، ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر ،
فإنها مجرد كيفية حارة متعلقة بالروح ، فيكفي في زوالها مجرد وصول
كيفية باردة تسكنها ، وتخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة ،
أو انتظار نضج
.
ويجوز أن يراد به جميع أنواع الحميات ، وقد اعترف فاضل الأطباء
جالينوس : بأن الماء البارد ينفع فيها ، قال في المقالة العاشرة من
كتاب حيلة البرء : ولو أن رجلاً شاباً حسن اللحم ، خصب البدن في
وقت القيظ ، وفي وقت منتهى الحمى ، وليس في أحشائه ورم ، استحم
بماء بارد أو سبح فيه ، لانتفع بذلك . قال : ونحن نأمر بذلك لا
توقف
.
وقال الرازي في كتابه الكبير : إذا كانت القوة قوية ، والحمى ،
حادة جداً ، والنضج بين ولا ورم في الجوف ، ولا فتق ، ينفع الماء
البارد شرباً ، وإن كان العليل خصب البدن والزمان حار ، وكان
معتاداً لاستعمال الماء البارد من خارج ، فليؤذن فيه
.
وقوله : " الحمى من فيح جهنم " ، هو شدة لهبها ، وانتشارها ،
ونظيره : قوله : " شدة الحر من فيح جهنم " وفيه وجهان
.
أحدهما : أن ذلك أنموذج ورقيقة اشتقت من جهنم ليستدل بها العباد
عليها ، ويعتبروا بها ، ثم إن الله سبحانه قدر ظهورها بأسباب
تقتضيها ، كما أن الروح والفرح و السرور واللذة من نعيم الجنة
أظهرها الله في هذه الدار عبرة ودلالة ، وقدر ظهورها بأسباب توجبها
.
والثاني : أن يكون المراد التشبيه ، فشبه شدة الحمى ولهبها بفيح
جهنم ، وشبه شدة الحر به أيضاً تنبيهاً للنفوس على شدة عذاب النار
، وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها ، وهو ما يصيب من قرب منها
من حرها
.
وقوله : فأبردوها ، روي بوجهين : بقطع الهمزة وفتحها ، رباعي :
من أبرد الشئ : إذا صيره بارداً ، مثل أسخنه : إذا صيره سخناً
.
والثاني : بهمزة الوصل مضمومة من برد الشئ يبرده ، وهو أفصح لغة
واستعمالاً ، والرباعي لغة رديئة عندهم قال
:
إذا وجدت لهيب الحب في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره فمن لنار علي الأحشاء تتقد
وقوله : بالماء ، فيه قولان . أحدهما : أنه كل ماء وهو الصحيح .
والثاني : أنه ماء زمزم ، واحتج أصحاب هذا القول بما رواه البخاري
في صحيحه عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي ، قال : كنت أجالس ابن
عباس بمكة ، فأخذتني الحمى ، فقال : أبردها عنك بماء زمزم ، فإن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الحمى من فيح جهنم
فأبردوها بالماء ، أو قال: بماء زمزم " . وراوي هذا قد شك فيه ،
ولو جزم به لكان أمراً لأهل مكة بماء زمزم ، إذ هو متيسر عندهم ،
ولغيرهم بما عندهم من الماء
.
ثم
اختلف من قال : إنه على عمومه ، هل المراد به الصدقة بالماء ، أو
استعماله ؟ على قولين . والصحيح أنه استعمال ، وأظن أن الذي حمل من
قال : المراد الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في
الحمى ، ولم يفهم وجهه مع أن لقوله وجهاً حسناً ، وهو أن الجزاء من
جنس
العمل ، فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد ، أخمد الله
لهيب الحمى عنه جزاء وفاقاً ، ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته
، وأما المراد به فاستعماله
.
وقد ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنس يرفعه : " إذا حم أحدكم ،
فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر
" .
وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة يرفعه : " الحمى كير من كير جهنم
، فنحوها عنكم بالماء البارد
" .
وفي المسند وغيره ، من حديث الحسن ، عن سمرة يرفعه : " الحمى
قطعة من النار ، فأبردوها عنكم بالماء البارد " ، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء ، فأفرغها على رأسه
فاغتسل
.
وفي السنن : من حديث أبي هريرة قال : ذكرت الحمى عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فسبها رجل ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " لا تسبها فإنها تنفي الذنوب ، كما تنفي النار خبث الحديد
" .
لما كانت الحمى يتبعها حمية عن الأغذية الرديئة ، وتناول الأغذية
والأدوية النافعة ، وفي ذلك إعانة على تنقية البدن ، ونفي أخباثه
وفضوله ، وتصفيته من مواده الرديئة ، وتفعل فيه كما تفعل النار في
الحديد في نفي خبثه ، وتصفية جوهره ، كانت أشبه الأشياء بنار الكير
التي تصفي جوهر الحديد ، وهذا القدر هو المعلوم عند أطباء الأبدان
.
وأما تصفيتها القلب من وسخه ودرنه ، وإخراجها خبائثه ، فأمر يعلمه
أطباء القلوب ، ويجدونه كما أخبرهم به نبيهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، ولكن مرض القلب إذا صار مأيوساً من برئه ، لم ينفع فيه
هذا العلاج
.
فالحمى تنفع البدن والقلب ، وما كان بهذه المثابة فسبه ظلم وعدوان
، وذكرت مرة وأنا محموم قول بعض الشعراء يسبها
:
زارت مكفرة الذنــوب وودعــت تبــاً لهــا مــن زائــر ومودع
قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت أن لا ترجعي
فقلت : تباً له إذ سب ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبه
، ولو قال
:
زارت مكفــــرة الذنوب لصبهــا أهلاً بهـــا مــــن زائر
ومودع
قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت : أن لا تقلعي
لكان أولى به ، ولأقلعت عنه ، فأقلعت عني سريعاً . وقد روي في أثر
لا أعرف حاله حمى يوم كفارة سنة ، وفيه قولان أحدهما : أن الحمى
تدخل في كل الأعضاء والمفاصل ، وعدتها ثلاثمائة وستون مفصلاً ،
فتكفر عنه - بعدد كل مفصل - ذنوب يوم. والثاني : أنها تؤثر في
البدن تأثيراً لا يزول بالكلية إلى سنة ، كما قيل في قوله صلى الله
عليه وسلم : " من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً " : إن
أثر الخمر يبقى في جوف العبد ، وعروقه ، وأعضائه أربعين يوماً
والله أعلم
.
قال أبو هريرة : ما من مرض يصيبني أحب إلي من الحمى ، لأنها تدخل
في كل عضو مني ، وإن الله سبحانه يعطي كل عضو حظه من الأجر
.
وقد روى الترمذي في جامعه من حديث رافع بن خديج يرفعه : " إذا
أصابت أحدكم الحمى - وإن الحمى قطعة من النار - فليطفئها بالماء
البارد ويستقبل نهراً جارياً ، فليستقبل جرية الماء بعد الفجر وقبل
طلوع الشمس ، وليقل : بسم الله اللهم اشف عبدك ، وصدق رسولك ،
وينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام ، فان برئ ، والإ ففى خمس ، فإن
لم يبرأ في خمس ، فسبع ، فإن لم يبرأ في سبع فتسع ، فإنها لا تكاد
تجاوز تسعاً بإذن الله
" .
قلت : وهو ينفع فعله في فصل الصيف في البلاد الحارة على الشرائط
التي تقدمت ، فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة
الشمس ، ووفور القوى في ذلك الوقت لما أفادها النوم ، والسكون ،
وبرد الهواء ، فتجتمع فيه قوة القوى ، وقوة الدواء ، وهو الماء
البارد
على
حرارة الحمى العرضية ، أو الغب الخالصة ، أعني التي لا ورم معها ،
ولا شئ من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة ، فيطفئها بإذن الله ،
لا سيما في أحد الأيام المذكورة في الحديث ، وهي الأيام التي يقع
فيها بحران الأمراض الحادة كثيراً ، سيما في البلاد المذكورة لرقة
أخلاط سكانها ، وسرعة انفعالهم عن الدواء النافع .
***
فصل
في
هديه في علاج استطلاق البطن
في الصحيحين : من حديث أبي المتوكل ، عن أبي سعيد الخدري ، " أن
رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن أخي يشتكي بطنه :
وفي رواية : استطلق بطنه ، فقال : اسقه عسلاً ، فذهب ثم رجع ،
فقال : قد سقيته ، فلم يغن عنه شيئاً. وفي لفظ : فلم يزده إلا
استطلاقاً مرتين أو ثلاثاً ، كل ذلك يقول له : اسقه عسلاً ، فقال
له في الثالثة أو الرابعة : صدق الله ، وكذب بطن أخيك
" .
وفي صحيح مسلم في لفظ له : " إن أخي عرب بطنه " ، أي فسد هضمه ،
واعتلت معدته ، والاسم العرب بفتح الراء ، والذرب أيضاً
.
والعسل فيه منافع عظيمة ، فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق
والأمعاء وغيرها ، محلل للرطوبات أكلاً وطلاءً ، نافع للمشايخ
وأصحاب البلغم ، ومن كان مزاجه بارداً رطباً ، وهو مغذ ملين
للطبيعة ، حافظ لقوى المعاجين ولما استودع فيه ، مذهب لكيفيات
الأدوية الكريهة ، منق للكبد والصدر ، مدر للبول ، موافق للسعال
الكائن عن البلغم ، وإذا شرب حاراً بدهن الورد ، نفع من نهش
الهوام وشرب الأفيون ، وإن شرب وحده ممزوجاً بماء نفع من عضة الكلب
الكلب ، وأكل الفطر القتال ، وإذا جعل فيه اللحم الطري ، حفظ
طراوته ثلاثة أشهر ، وكذلك إن جعل فيه القثاء ، والخيار ، والقرع ،
والباذنجان ، ويحفظ كثيراً من الفاكهة ستة أشهر ، ويحفظ جثة الموتى
، ويسمى الحافظ الأمين . وإذا لطخ به البدن المقمل والشعر ، قتل
قمله وصئبانه ، وطول الشعر ، وحسنه ، ونعمه ، وإن اكتحل به ، جلا
ظلمة البصر ، وإن استن به ، بيض الأسنان وصقلها ، وحفظ صحتها ،
وصحة اللثة ، ويفتح أفواه العروق ، ويدر الطمث ، ولعقه على الريق
يذهب البلغم ، ويغسل خمل المعدة ، ويدفع الفضلات عنها ، ويسخنها
تسخيناً معتدلاً ، ويفتح سددها ، ويفعل ذلك بالكبد والكلى والمثانة
، وهو أقل ضرراً لسدد الكبد والطحال من كل حلو
.
وهو مع هذا كله مأمون الغائلة ، قليل المضار ، مضر بالعرض
للصفراويين ، ودفعها بالخل ونحوه ، فيعود حينئذ نافعاً له جداً
.
وهو غذاء مع الأغذية ، ودواء مع الأدوية ، وشراب مع الأشربة ، وحلو
مع الحلوى ، وطلاء مع الأطلية ، ومفرح مع المفرحات ، فما خلق لنا
شئ فى في معناه أفضل منه ، ولا مثله ، ولا قريباً منه ، ولم يكن
معول القدماء إلا عليه ، وأكثر كتب القدماء لا ذكر فيها للسكر
البتة
،
ولا
يعرفونه ، فإنه حديث العهد حدث قريباً ، وكان النبي صلى الله عليه
وسلم يشربه بالماء على الريق ، وفي ذلك سر بديع في حفظ الصحة لا
يدركه إلا الفطن الفاضل ، وسنذكر ذلك إن شاء الله عند ذكر هديه في
حفظ الصحة
.
وفي سنن ابن ماجه مرفوعاً من حديث أبي هريرة " من لعق العسل ثلاث
غدوات كل شهر ، لم يصبه عظيم من البلاء " ، وفي أثر آخر : " عليكم
بالشفاءين : العسل والقرآن " فجمع بين الطب البشري والإلهي ، وبين
طب الأبدان ، وطب الأرواح ، وبين الدواء الأرضي والدواء السمائي .
إذا عرف هذا ، فهذا الذي وصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل ،
كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته عن امتلاء ، فأمره بشرب العسل
لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء ، فإن العسل فيه
جلاء ، ودفع للفضول ، وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة ، تمنع
استقرار الغذاء فيها للزوجتها ، فإن المعدة لها خمل كخمل القطيفة ،
فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة ، أفسدتها وأفسدت الغذاء ، فدواؤها
بما يجلوها من تلك الأخلاط ، والعسل جلاء ، والعسل من أحسن ما عولج
به هذا الداء ، لا سيما إن مزج بالماء الحار
.
وفي تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع ، وهو أن الدواء يجب أن يكون
له مقدار ، وكمية بحسب حال الداء ، إن قصر عنه ، لم يزله بالكلية ،
وإن جاوزه . أوهى القوى ، فأحدث ضرراً آخر ، فلما أمره أن يسقيه
العسل ، سقاه مقداراً لا يفي بمقاومة الداء ، ولا يبلغ الغرض ،
فلما أخبره ، علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة ، فلما تكرر
ترداده إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أكد عليه المعاودة ليصل إلى
المقدار المقاوم للداء ، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء ، برأ
، بإذن الله ، واعتبار مقادير الأدوية ، وكيفياتها ، ومقدار قوة
المرض مرض من أكبر قواعد الطب
.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " صدق الله وكذب بطن أخيك " ، إشارة
إلى تحقيق نفع هذا الدواء ، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في
نفسه ، ولكن لكذب البطن ، و كثرة المادة الفاسدة فيه ، فأمره
بتكرار الدواء لكثرة المادة
.
وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء ، فإن طب النبي صلى الله
عليه وسلم متيقن قطعي إلهي ، صادر عن الوحي ، ومشكاة النبوة ،
وكمال العقل . وطب غيره ، أكثره حدس وظنون ، وتجارب ، ولا ينكر عدم
انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة ، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه
بالقبول ، واعتقاد الشفاء به ، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان
، فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور - إن لم يتلق هذا التلقي
- لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها ، بل لا يزيد المنافقين إلا
رجساً إلى رجسهم ، ومرضاً إلى مرضهم ، وأين يقع طب الأبدان منه ،
فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطبية ، كما أن شفاء القرآن لا
يناسب إلا الأرواح الطبية والقلوب الحية ، فإعراض الناس عن طب
النبوة كإعراضهم عن طب الإستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع ،
وليس ذلك لقصور فى الدواء ، ولكن لخبث الطبيعة ، وفساد المحل ،
وعدم قبوله ، والله الموفق .
***
فصل
في
هديه في داء الإستسقاء وعلاجه
في الصحيحين : من حديث أنس بن مالك ، قال : قدم رهط من عرينة
وعكل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فاجتووا المدينة ، فشكوا ذلك
إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لو خرجتم إلى إبل الصدقة
فشربتم من أبوالها وألبانها ، ففعلوا ، فلما صحوا ، عمدوا إلى
الرعاة
فقتلوهم ، واستاقوا الإبل ، وحاربو الله ورسوله ، فبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فأخذوا ، فقطع أيديهم ، وأرجلهم ،
وسمل أعينهم ، وألقاهم في الشمس حتى ماتوا
" .
والدليل على أن هذا المرض كان الإستسقاء ، ما رواه مسلم في صحيحه
في هذا الحديث أنهم قالوا : إنا اجتوينا المدينة ، فعظمت بطوننا ،
وارتهشت أعضاؤنا ، وذكر تمام الحديث
. . .
والجوى : داء من أدواء الجوف - والإستسقاء : مرض مادي سببه مادة
غريبة باردة تتخلل الأعضاء فتربو لها إما الأعضاء الظاهرة كلها ،
وإما المواضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والأخلاط
، وأقسامه ثلاثة : لحمي ، وهو أصعبها . وزقي ، وطبلي
.
ولما كانت الأدوية المحتاج إليها فى علاجه هي الأدوية الجالبة التي
فيها إطلاق معتدل ، وإدرار بحسب الحاجة ، وهذه الأمور موجودة في
أبوال الإبل وألبانها ، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بشربها ،
فإن في لبن اللقاح جلاءً وتلييناً ، وإدراراً وتلطيفاً، وتفتيحاً
للسدد ، إذ كان أكثر رعيها الشيح ، والقيصوم ، والبابونج ،
والأقحوان ، والإذخر ، وغير ذلك من الأدوية النافعة للإستسقاء
.
وهذا المرض لا يكون إلا مع آفة في الكبد خاصة ، أو مع مشاركة ،
وأكثرها عن السدد فيها ، ولبن اللقاح العربية نافع من السدد ، لما
فيه من التفتيح ، والمنافع المذكورة
.
قال الرازي : لبن اللقاح يشفي أوجاع الكبد ، وفساد المزاج ، وقال
الإسرائيلي : لبن اللقاح أرق الألبان ، وأكثرها مائية وحدة ،
وأقلها غذاء ، فلذلك صار أقواها على تلطيف الفضول ، وإطلاق البطن ،
وتفتيح السدد ، ويدل على ذلك ملوحته اليسيرة التي فيه لإفراط حرارة
حيوانية بالطبع ، ولذلك صار أخص الألبان بتطرية الكبد ، وتفتيح
سددها ، وتحليل صلابة الطحال إذا كان حديثاً ، والنفع من الإستسقاء
خاصة إذا استعمل لحرارته التي يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل ،
وهو حار كما يخرج من الحيوان ، فإن ذلك مما يزيد في ملوحته ،
وتقطيعه الفضول ، وإطلاقه البطن ، فإن تعذر انحداره وإطلاقه البطن
، وجب أن يطلق بدواء مسهل
.
قال صاحب القانون : ولا يلتفت إلى ما يقال : من أن طبيعة اللبن
مضادة لعلاج الإستسقاء . قال : واعلم أن لبن النوق دواء نافع لما
فيه من الجلاء برفق ، وما فيه من خاصية ، وأن هذا اللبن شديد
المنفعة ، فلو أن إنساناً أقام عليه بدل الماء والطعام شفي به ،
وقد جرب ذلك في قوم دفعوا إلى بلاد العرب ، فقادتهم الضرورة إلى
ذلك ، فعوفوا . وأنفع الأبوال : بول الجمل الأعرابي ، وهو النجيب ،
انتهى
.
وفي القصة : دليل على التداوي والتطبب ، وعلى طهارة بول مأكول
اللحم ، فإن التداوي بالمحرمات غير جائز ، ولم يؤمروا مع قرب عهدهم
بالإسلام بغسل أفواههم ، وما أصابته ثيابهم من أبوالها للصلاة ،
وتأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة
.
وعلى مقاتلة الجاني بمثل ما فعل ، فإن هؤلاء قتلوا الراعي ، وسملوا
عينيه ، ثبت ذلك في صحيح مسلم
.
وعلى قتل الجماعة ، وأخذ أطرافهم بالواحد
.
وعلى أنه إذا اجتمع في حق الجاني حد وقصاص استوفيا معاً ، فإن
النبي صلى الله عليه وسلم قطع أيديهم وأرجلهم حداً لله على حرابهم
، وقتلهم لقتلهم الراعي
.
وعلى أن المحارب إذا أخذ المال ، وقتل ، قطعت يده ورجله في مقام
واحد وقتل
.
وعلى أن الجنايات إذا تعددت ، تغلظت عقوباتها ، فإن هؤلاء ارتدوا
بعد إسلامهم ، وقتلوا النفس ، ومثلوا بالمقتول ، وأخذوا المال ،
وجاهروا بالمحاربة
.
وعلى أن حكم ردء المحاربين حكم مباشرهم ، فإنه من المعلوم أن كل
واحد منهم لم يباشر القتل بنفسه ، ولا سأل النبي صلى الله عليه
وسلم عن ذلك
.
وعلى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حداً ، فلا يسقطه العفو ، ولا
تعتبر فيه المكافأة ، وهذا مذهب أهل المدينة ، وأحد الوجهين فى
مذهب أحمد ، اختاره شيخنا ، وأفتى به .
***
فصل
في صحيح البخاري : عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم ، قال : " الشفاء في ثلاث : شربة عسل ، وشرطة محجم
، وكية نار ، وأنا أنهى أمتي عن الكي
" .
قال أبو عبد الله المازري : الأمراض الإمتلائية : إما أن تكون
دموية ، أو صفراوية ، أو بلغمية ، أو سوداوية . فإن كانت دموية ،
فشفاؤها إخراج الدم ، وإن كانت من الأقسام الثلاثة الباقية ،
فشفاؤها بالإسهال الذي يليق بكل خلط منها ، وكأنه صلى الله عليه
وسلم بالعسل على المسهلات ، وبالحجامة على الفصد ، وقد قال بعض
الناس : إن الفصد يدخل في قوله : شرطة محجم . فإذا أعيا الدواء ،
فآخر الطب الكي ، فذكره صلى الله عليه وسلم في الأدوية ، لأنه
يستعمل عند غلبة الطباع لقوى الأدوية ، وحيث لا ينفع الدواء
المشروب . وقوله : وأنا أنهى أمتي عن الكي ، وفي الحديث الآخر :
وما أحب أن أكتوي ، إشارة إلى أن يؤخر العلاج به حتى تدفع الضرورة
إليه ، ولا يعجل التداوي به لما فيه من استعجال الألم الشديد في
دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي ، انتهى كلامه
.
وقال بعض الأطباء : الأمراض المزاجية : إما أن تكون بمادة ، أو
بغير مادة ، والمادية منها : إما حارة ، أو باردة ، أو رطبة ، أو
يابسة ، أو ما تركب منها ، وهذه الكيفيات الأربع ، منها كيفيتان
فاعلتان : وهما الحرارة والبرودة ، وكيفيتان منفعلتان ، وهما
الرطوبة واليبوسة ، ويلزم من غلبة إحدى الكيفيتين الفاعلتين
استصحاب كيفية منفعلة معها ، وكذلك كان لكل واحد من الأخلاط
الموجودة في البدن ، وسائر المركبات كيفيتان : فاعلة ومنفعلة
.
فحصل من ذلك أن أصل الأمراض المزاجية هي التابعة لأقوى كيفيات
الأخلاط التي هي الحرارة والبرودة ، فجاء كلام النبوة في أصل
معالجة الأمراض التي هي الحارة والباردة على طريق التمثيل ، فإن
كان المرض حاراً ، عالجناه بإخراج الدم ، بالفصد كان أو بالحجامة ،
لأن في ذلك
استفراغاً للمادة ، وتبريداً للمزاج . وإن كان بارداً عالجناه
بالتسخين ، وذلك موجود في العسل ، فإن كان يحتاج مع ذلك إلى
استفراغ المادة الباردة ، فالعسل أيضاً يفعل في ذلك لما فيه من
الإنضاج ، والتقطيع ، والتلطيف، والجلاء، والتليين ، فيحصل بذلك
استفراغ تلك المادة برفق وأمن من نكاية المسهلات القوية
.
وأما الكي : فلأن كل واحد من الأمراض المادية ، إما أن يكون حاداً
فيكون سريع الإفضاء لأحد الطرفين ، فلا يحتاج إليه فيه ، وإما أن
يكون مزمناً ، وأفضل علاجه بعد الإستفراغ الكي في الأعضاء التي
يجوز فيها الكي ، لأنه لا يكون مزمناً إلا عن مادة باردة غليظة قد
رسخت
في
العضو ، وأفسدت مزاجه ، وأحالت جميع ما يصل إليه إلى مشابهة جوهرها
، فيشتعل في ذلك العضو، فيستخرج بالكي تلك المادة من ذلك المكان
الذي هو فيه بإفناء الجزء الناري الموجود بالكي لتلك المادة
.
فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أخذ معالجة الأمراض المادية جميعها ،
كما استنبطنا معالجة الأمراض الساذجة من قوله صلى الله عليه وسلم :
" إن شدة الحمى من فيح جهنم ، فأبردوها بالماء " .
***
فصل
وأما الحجامة ، ففي سنن ابن ماجه من حديث جبارة بن المغلس ، -
وهو ضعيف - عن كثير بن سليم ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما مررت ليلة أسري بي بملإ إلا
قالوا : يا محمد ! مر أمتك بالحجامة
" .
وروى الترمذي في جامعه من حديث ابن عباس هذا الحديث : وقال فيه :
"عليك بالحجامة يا محمد
" .
وفي الصحيحين : من حديث طاووس ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله
عليه وسلم : " احتجم وأعطى الحجام أجره
" .
وفي الصحيحين أيضاً ، عن حميد الطويل ، عن أنس ، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة ، فأمر له بصاعين من طعام ، وكلم
مواليه ، فخففوا عنه من ضريبته ، وقال : " خير ما تداويتم به
الحجامة
" .
وفي جامع الترمذي عن عباد بن منصور ، قال : سمعت عكرمة يقول :
كان لابن عباس غلمة ثلاثة حجامون ، فكان اثنان يغلان عليه ، وعلى
أهله ، وواحد لحجمه ، وحجم أهله . قال : وقال ابن عباس : قال نبي
الله صلى الله عليه وسلم : " نعم العبد الحجام يذهب بالدم ، ويخف
الصلب
،
ويجلو
البصر " ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عرج به ، ما
مر على ملإ من الملائكه إلا قالوا : " عليك بالحجامة " ، وقال : "
إن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة ، ويوم تسع عشرة ، ويوم إحدى
وعشرين " ، وقال : " إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود
والحجامة والمشي " ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لد فقال: "
من لدني ؟ فكلهم أمسكوا ، فقال : لا يبقى أحد في البيت إلا لد
إلا العباس " . قال : هذا حديث غريب ، ورواه ابن ماجه .
***
فصل
وأما منافع الحجامة : فإنها تنقي سطح البدن أكثر من الفصد ، والفصد
لأعماق البدن أفضل ، والحجامة تستخرج الدم من نواحي الجلد
.
قلت : والتحقيق في أمرها وأمر الفصد ، أنهما يختلفان باختلاف
الزمان ، والمكان ، والأسنان ، والأمزجة ، فالبلاد الحارة ،
والأزمنة الحارة ، والأمزجة الحارة التي دم أصحابها في غاية النضج
الحجامة فيها أنفع من الفصد بكثير ، فإن الدم ينضج ويرق ويخرج إلى
سطح الجسد الداخل ، فتخرج الحجامة ما لا يخرجه الفصد ، ولذلك كانت
أنفع للصبيان من الفصد ، ولمن لا يقوى على الفصد ، وقد نص الأطباء
على أن البلاد الحارة الحجامة فيها أنفع وأفضل من الفصد ، وتستحب
في وسط الشهر ، وبعد وسطه . وبالجملة ، في الربع الثالث من أرباع
الشهر ، لأن الدم في أول الشهر لم يكن بعد قد هاج وتبيغ ، وفي آخره
يكون قد سكن . وأما في وسطه وبعيده ، فيكون في نهاية التزيد
.
قال صاحب القانون : ويؤمر باستعمال الحجامة لا في أول الشهر ،
لأن الأخلاط لا تكون قد تحركت وهاجت ، ولا في آخره لأنها تكون قد
نقصت ، بل في وسط الشهر حين تكون الأخلاط هائجة بالغة في تزايدها
لتزيد النور في جرم القمر . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
أنه
قال :
" خير ما تداويتم به الحجامة والفصد " . وفي حديث : " خير الدواء
الحجامة والفصد " . انتهى
.
وقوله صلى الله عليه وسلم : " خير ما تداويتم به الحجامة " إشارة
إلى أهل الحجاز ، والبلاد الحارة ، لأن دماءهم رقيقة ، وهي أميل
الى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح الجسد ،
واجتماعها في نواحي الجلد ، ولأن مسام أبدانهم واسعة ، وقواهم
متخلخلة ، ففي
الفصد
لهم خطر ، والحجامة تفرق اتصالي إرادي يتبعه استفراغ كلي من العروق
، وخاصة العروق التي لا تفصد كثيراً ، ولفصد كل واحد منها نفع خاص
، ففصد الباسليق : ينفع من حرارة الكبد والطحال والأورام الكائنة
فيهما من الدم ، وينفع من أورام الرئة ، وينفع من الشوصة وذات
الجنب وجميع الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك
.
وفصد الأكحل : ينفع من الإمتلاء العارض في جميع البدن إذا كان
دموياً ، وكذلك إذا كان الدم قد فسد في جميع البدن
.
وفصد القيفال : ينفع من العلل العارضة في الرأس والرقبة من كثرة
الدم أو فساده
.
وفصد الودجين : ينفع من وجع الطحال ، والربو ، والبهر ، ووجع
الجبين
.
والحجامة على الكاهل : تنفع من وجع المنكب والحلق
.
والحجامة على الأخدعين ، تنفع من أمراض الرأس ، وأجزائه ، كالوجه ،
والأسنان ، والأذنين ، والعينين ، والأنف ، والحلق إذا كان حدوث
ذلك عن كثرة الدم أو فساده ، أو عنهما جميعاً . قال أنس رضي الله
تعالى عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين
والكاهل
.
وفي الصحيحين عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم
ثلاثاً : واحدة على كاهله ، واثنتين على الأخدعين
.
وفي الصحيح : عنه ، أنه احتجم وهو محرم في رأسه لصداع كان به
.
وفي سنن ابن ماجه عن علي ، نزل جبريل على النبي صلى الله عليه
وسلم بحجامة الأخدعين والكاهل
.
وفي سنن أبي داود من حديث جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم :
" احتجم في وركه من وثء كان به " .
***
فصل
وذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي حديثاً مرفوعاً " عليكم
بالحجامة في جوزة القمحدوة ، فإنها تشفي من خمسة أدواء " ، ذكر
منها الجذام
.
وفي حديث آخر : " عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة ، فإنها شفاء من
اثنين وسبعين داء
" .
فطائفة منهم استحسنته وقالت : إنها تنفع من جحظ العين ، والنتوء
العارض فيها ، وكثير من أمراضها ، ومن ثقل الحاجبين والجفن ، وتنفع
من جربه . وروي أن أحمد بن حنبل احتاج إليها ، فاحتجم في جانبي
قفاه ، ولم يحتجم في النقرة ، وممن كرهها صاحب القانون وقال :
إنها تورث النسيان حقاً ، كما قال سيدنا ومولانا وصاحب شريعتنا
محمد صلى الله عليه وسلم ، ، فإن مؤخر الدماغ موضع الحفط ،
والحجامة تذهبه ، انتهى كلامه
.
ورد عليه آخرون ، وقالوا : الحديث لا يثبت ، وإن ثبث فالحجامة ،
إنما تضعف مؤخر الدماغ إذا استعملت لغير ضرورة ، فأما إذا استعملت
لغلبة الدم عليه ، فإنها نافعة له طباً وشرعاً ، فقد ثبت عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه احتجم في عدة أماكن من قفاه بحسب ما اقتضاه
الحال في ذلك ، واحتجم في غير القفا بحسب ما دعت إليه حاجته .
***
فصل
والحجامة تحت الذقن
تنفع من وجع الأسنان والوجه والحلقوم ، إذا استعملت في وقتها ،
وتنقي الرأس والفكين ، والحجامة على ظهر القدم تنوب عن فصد الصافن
، وهو عرق عظيم عند الكعب ، وتنفع من قروح الفخذين والساقين ،
وانقطاع الطمث ، والحكة العارضة في الإنثيين ، والحجامة في أسفل
الصدر نافعة من دماميل الفخذ ، وجربه وبثوره ، ومن النقرس
والبواسير ، والفيل وحكة الظهر .
***
فصل
في هديه في أوقات
الحجامة
روى الترمذي في جامعه : من حديث ابن عباس يرفعه : " إن خير ما
تحتجمون في يوم سابع عشرة ، أو تاسع عشرة ، ويوم إحدى وعشرين
" .
وفيه "عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين
والكاهل ، وكان يحتجم لسبعة عشر ، وتسعة عشر ، وفي إحدى وعشرين
" .
وفي سنن ابن ماجه عن أنس مرفوعاً : " من أراد الحجامة فليتحر
سبعة عشر ، أو تسعة عشر ، أو إحدى وعشرين ، لا يتبيغ بأحدكم الدم
فيقتله
" .
وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعاً : " من احتجم لسبع
عشرة ، أو تسع عشرة ، أو إحدى وعشرين ، كانت شفاء من كل داء " ،
وهذا معناه من كل داء سببه غلبة الدم
.
وهذه الأحاديث موافقة لما أجمع عليه الأطباء ، أن الحجامة في النصف
الثاني ، وما يليه من الربع الثالث من أرباعه أنفع من أوله وآخره ،
وإذا استعملت عند الحاجة إليها نفعت أي وقت كان من أول الشهر وآخره
.
قال الخلال : أخبرني عصمة بن عصام ، قال : حدثنا حنبل ، قال : كان
أبو عبد الله أحمد بن حنبل يحتجم أي وقت هاج به الدم ، وأي ساعة
كانت
.
وقال صاحب القانون : أوقاتها في النهار : الساعة الثانية أو
الثالثة ، ويجب توقيها بعد الحمام إلا فيمن دمه غليط ، فيجب أن
يستحم ، ثم يستجم ساعة ، ثم يحتجم ، انتهى
.
وتكره عندهم الحجامة على الشبع ، فإنها ربما أورثت سدداً وأمراضاً
رديئة ، لا سيما إذا كان الغذاء رديئاً غليظاً . وفي أثر : "
الحجامة على الريق دواء ، وعلى الشبع داء ، وفي سبعة عشر من الشهر
شفاء
" .
واختيار هذه الأوقات للحجامة ، فيما إذا كانت على سبيل الإحتياط
والتحرز من الأذى ، وحفظاً للصحة . وأما في مداواة الأمراض ،
فحيثما وجد الإحتياح إليها وجب استعمالها . وفي قوله : " لا يتبيغ
بأحدكم الدم فيقتله " دلالة على ذلك ، يعني لئلا يتبيغ ، فحذف حرف
الجر مع
(
أن )
، ثم حذفت ( أن ) . والتبيغ : الهيج ، وهو مقلوب البغي ، وهو
بمعناه ، فإنه بغي الدم وهيجانه . وقد تقدم أن الإمام أحمد كان
يحتجم أي وقت احتاج من الشهر .
***
فصل
وأما اختيار أيام الأسبوع للحجامة ، فقال الخلال في جامعه :
أخبرنا حرب بن إسماعيل ، قال : قلت لأحمد : تكره الحجامة في شء من
الأيام ؟ قال : قد جاء في الأربعاء والسبت
.
وفيه : عن الحسين بن حسان ، أنه سأل أبا عبد الله عن الحجامة : أي
يوم تكره ؟ فقال : في يوم السبت ، ويوم الأربعاء ، ويقولون : يوم
الجمعة
.
وروى الخلال ، عن أبي سلمة وأبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة
مرفوعاً : " من احتجم يوم الأربعاء أو يوم السبت ، فأصابه بياض أو
برص ، فلا يلومن إلا نفسه
" .
وقال الخلال : أخبرنا محمد بن علي بن جعفر ، أن يعقوب بن بختان
حدثهم ، قال : سئل أحمد عن النورة والحجامة يوم السبت ويوم
الأربعاء ؟ فكرهها . وقال : بلغني عن رجل أنه تنور ، واحتجم يعني
يوم الأربعاء ، فأصابه البرص . قلت له : كأنه تهاون بالحديث ؟ قال
: نعم
.
وفي كتاب الأفراد للدارقطني ، من حديث نافع قال : قال لي عبد
الله بن عمر : تبيغ بي الدم ، فابغ لي حجاماً ، ولا يكن صبياً ولا
شيخاً كببراً ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "
الحجامة تزيد الحافظ حفظاً ، والعاقل عقلاً ، فاحتجموا على اسم
الله تعالى ، ولا تحتجموا الخميس ، والجمعة ، والسبت ، والأحد ،
واحتجموا الإثنين ، وما كان من جذام ولا برص ، إلا نزل يوم
الأربعاء " . قال الدارقطني : تفرد به زياد بن يحيى ، وقد رواه
أيوب عن نافع ، وقال فيه : " واحتجموا يوم الإثنين والثلاثاء ، ولا
تحتجموا يوم الأربعاء
" .
وقد روى أبو داود في سننه من حديث أبي بكرة ، أنه كان يكره
الحجامة يوم الثلاثاء ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : " يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ فيها الدم " .
***
فصل
وفي ضمن هذه الأحاديث المتقدمة استحباب التداوي ، واستحباب الحجامة
، وأنها تكون في الموضع الذي يقتضيه الحال ، وجواز احتجام المحرم ،
وإن آل إلى قطع شئ من الشعر ، فإن ذلك جائز . وفي وجوب الفدية عليه
نظر ، ولا يقوى الوجوب ، وجواز احتجام الصائم ، فإن في صحيح
البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احتجم وهو صائم " .
ولكن هل يفطر بذلك ، أم لا ؟ مسألة أخرى ، الصواب : الفطر بالحجامة
، لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير معارض ، وأصح ما
يعارض به حديث حجامته وهو صائم ، ولكن لا يدل على عدم الفطر إلا
بعد أربعة أمور . أحدها : أن الصوم كان فرضاً . الثاني : أنه كان
مقيماً . الثالث : أنه لم يكن به مرض احتاج معه إلى الحجامة .
الرابع : أن هذا الحديث متأخر عن قوله : " أفطر الحاجم والمحجوم
" .
فإذا ثبتت هذه المقدمات الأربع ، أمكن الإستدلال بفعله صلى الله
عليه وسلم على بقاء الصوم مع الحجامة ، وإلا فما المانع أن يكون
الصوم نفلاً يجوز الخروج منه بالحجامة وغيرها ، أو من رمضان لكنه
في السفر ، أو من رمضان في الحضر ، لكن دعت الحاجة إليها كما تدعو
حاجة من به مرض إلى الفطر ، أو يكون فرضاً من رمضان في الحضر من
غير حاجة إليها ، لكنه مبقى على الأصل . وقوله : " أفطر الحاجم
والمحجوم " ، ناقل ومتأخر ، فيتعين المصير إليه ، ولا سبيل إلى
إثبات واحدة من هذه المقدمات الأربع ، فكيف بإثباتها كلها
.
وفيها دليل على استئجار الطبيب وغيره من غير عقد إجازة ، بل يعطيه
أجرة المثل ، أو ما يرضيه
.
وفيها دليل على جواز التكسب بصناعة الحجامة ، وإن كان لا يطيب للحر
أكل أجرته من غير تحريم عليه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه
أجره ، ولم يمنعه من أكله ، وتسميته إياه خبيثاً كتسميته للثوم
والبصل خبيثين ، ولم يلزم من ذلك تحريمهما
.
وفيها دليل على جواز ضرب الرجل الخراج على عبده كل يوم شيئاً
معلوماً بقدر طاقته ، وأن العبد أن يتصرف فيما زاد على خراجه ،
ولو منع من التصرف ، لكان كسبه كله خراجاً ولم يكن لتقديره فائدة ،
بل ما زاد على خراجه ، فهو تمليك من سيده له يتصرف فيه كما أراد ،
والله أعلم .
***
فصل
في
هديه صلى الله عليه وسلم في قطع العروق والكي
ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله ، أن النبي صلى الله
عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيباً ، فقطع له عرقاً وكواه عليه
.
ولما رمي سعد بن معاذ في أكحله حسمه النبي صلى الله عليه وسلم ثم
ورمت ، فحسمه الثانية . والحسم : هو الكي
.
وفي طريق آخر : أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ في
أكحله بمشقص ، ثم حسمه سعد بن معاذ أو غيره من أصحابه
.
وفي لفظ آخر : أن رجلاً من الأنصار رمي في أكحله بمشقص ، فأمر
النبي صلى الله عليه وسلم به فكوي
.
وقال أبو عبيد : وقد أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل نعت له
الكي ، فقال : " اكووه وارضفوه " . قال أبو عبيد : الرضف: الحجارة
تسخن ، ثم يكمد بها
.
وقال الفضل بن دكين : حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن
النبي صلى الله عليه وسلم كواه في أكحله
.
وفي صحيح البخاري من حديث أنس ، أنه كوي من ذات الجنب والنبى صلى
الله عليه وسلم حي
.
وفي الترمذي ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : " كوى أسعد
بن زرارة من الشوكة " ، وقد تقدم الحديث المتفق عليه وفيه " وما
أحب أن أكتوي " وفي لفظ آخر : " وأنا أنهى أمتي عن الكي
" .
وفي جامع الترمذي وغيره عن عمران بن حصين ، أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن الكي قال : فابتلينا فاكتوينا فما أفلحنا ، ولا
أنجحنا . وفي لفظ : نهينا عن الكي وقال : فما أفلحن ولا أنجحن
.
قال الخطابي : إنما كوى سعداً ليرقأ الدم من جرحه ، وخاف عليه أن
ينزف فيهلك . والكي مستعمل في هذا الباب ، كما يكوى من تقطع يده أو
رجله
.
وأما النهي عن الكي ، فهو أن يكتوي طلباً للشفاء ، وكانوا يعتقدون
أنه متى لم يكتو ، هلك ، فنهاهم عنه لأجل هذه النية
.
وقيل : إنما نهى عنه عمران بن حصين خاصة ، لأنه كان به ناصور ،
وكان موضعه خطراً ، فنهاه عن كيه ، فيشبه أن يكون النهي منصرفاً
إلى الموضع المخوف منه ، والله أعلم
.
وقال ابن قتيبة : الكي جنسان : كي الصحيح لئلا يعتل ، فهذا الذي
قيل فيه : لم يتوكل من اكتوى ، لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه
.
والثاني : كي الجرح إذا نغل ، والعضو إذا قطع ، ففي هذا الشفاء
.
وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجع ، ويجوز أن لا ينجع ،
فإنه إلى الكراهة أقرب . انتهى
.
وثبت في الصحيح في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير
حساب "أنهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون ، وعلى ربهم
يتوكلون
".
فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع ، أحدها : فعله ، والثاني : عدم
محبته له ، والثالث : الثناء على من تركه ، والرابع : النهي عنه ،
ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى ، فإن فعله يدل على جوازه ، وعدم
محبته له لا يدل على المنع منه . وأما الثناء على تاركه ، فيدل على
أن تركه أولى وأفضل . وأما النهي عنه ، فعلى سبيل الإختيار
والكراهة ، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه ، بل يفعل خوفاً من
حدوث الداء ، والله أعلم .
***
فصل
أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح ، قال : قال ابن
عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى . قال : هذه
المرأة السوداء ، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع ،
وإني أتكشف ، فادع الله لي ، فقال : " إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن
شئت دعوت الله لك أن يعافيك ، فقالت : أصبر . قالت : فإني أتكشف ،
فادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها
" .
قلت : الصرع صرعان : صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية ، وصرع من
الأخلاط الرديئة . والثاني : هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه
وعلاجه
.
وأما صرع الأرواح ، فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ، ولا يدفعونه ،
ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك
الأرواح الشريرة الخبيثة ، فتدافع آثارها ، وتعارض أفعالها وتبطلها
، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه ، فذكر بعض علاج الصرع ، وقال
:
هذا
إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة . وأما الصرع الذي
يكون من الأرواح ، فلا ينفع فيه هذا العلاج
.
وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ، ومن يعتقد بالزندقة فضيلة ،
فأولئك ينكرون صرع الأرواح ، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع
، وليس معهم إلا الجهل ، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك
، والحس والوجود شاهد به ، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط ، هو
صادق في بعض أقسامه لا في كلها
.
وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع : المرض الإلهي ، وقالوا :
إنه من الأرواح ، وأما جالينوس وغيره ، فتأولوا عليهم هذه التسمية
، وقالوا : إنما سموه بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس
، فنضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ.
وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها ، وتأثيراتها
، وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده
.
ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف
عقولهم
.
وعلاج هذا النوع يكون بأمرين : أمر من جهة المصروع ، وأمر من جهة
المعالج ، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه ، وصدق توجهه إلى
فاطر هذه الأرواح وبارئها ، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه
القلب واللسان ، فإن هذا نوع محاربة ، والمحارب لا يتم له الإنتصاف
من عدوه بالسلاح إلا بأمرين : أن يكون السلاح صحيحاً في نفسه جيداً
، وأن يكون الساعد قوياً ، فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير
طائل ، فكيف إذا عدم الأمران جميعاً : يكون القلب خراباً من
التوحيد ، والتوكل ، والتقوى ، والتوجه ، ولا سلاح له
.
والثاني : من جهة المعالج ، بأن يكون فيه هذان الأمران أيضاً ، حتى
إن من المعالجين من يكتفي بقوله : اخرج منه . أو بقول: بسم
الله أو بقول لا حول ولا قوة إلا بالله ، والنبى صلى الله عليه
وسلم كان يقول : " اخرج عدو الله أنا رسول الله
" .
وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ، ويقول :
قال لك الشيخ : اخرجي ، فإن هذا لا يحل لك ، فيفيق المصروع ، وربما
خاطبها بنفسه ، وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب ، فيفيق
المصروع ولا يحس بألم ، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مراراً
.
وكان كثيراً ما يقرأ في أذن المصروع : " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا
وأنكم إلينا لا ترجعون " [ المؤمنون : 115
] .
وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع ، فقالت الروح : نعم ، ومد
بها صوته . قال : فأخذت له عصا ، وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت
يداي من الضرب ، ، ولم يشك الحاضرون أنه يموت لذلك الضرب . ففي
أثناء الضرب قالت : أنا أحبه ، فقلت لها : هو لا يحبك ، قالت : أنا
أريد
أن
أحج به ، فقلت لها : هو لا يريد أن يحج معك ، فقالت : أنا أدعه
كرامة لك ، قال : قلت : لا ولكن طاعة لله ولرسوله ، قالت : فأنا
أخرج منه ، قال : فقعد المصروع يلتفت يميناً وشمالاً ، وقال : ما
جاء بي إلى حضرة الشيخ ، قالوا له : وهذا الضرب كله ؟ فقال : وعلى
أي
شئ
يضربني الشيخ ولم أذنب ، ولم يشعر بأنه وقع به ضرب البتة
.
وكان يعالج بآية الكرسي ، وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع ومن
يعالجه بها ، وبقراءة المعوذتين
.
وبالجملة فهذا النوع من الصرع ، وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من
العلم والعقل والمعرفة ، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون
من جهة قلة دينهم ، وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر ،
والتعاويذ ، والتحصنات النبوية والايمانية ، فتلقى الروح الخبيثة
الرجل أعزل لا سلاح معه ، وربما كان عرياناً فيؤثر فيه هذا
.
ولو كشف الغطاء ، لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى هذه الأرواح
الخبيثة ، وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت ، ولا يمكنها
الإمتناع عنها ولا مخالفتها ، وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق
صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة ، فهناك يتحقق أنه كان هو
المصروع حقيقة ، وبالله المستعان
.
وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به
الرسل ، وأن تكون الجنة والنار نصب عينيه وقبلة قلبه ، ويستحضر أهل
الدنيا ، وحلول المثلات والآفات بهم ، ووقوعها خلال ديارهم كمواقع
القطر ، وهم صرعى لا يفيقون ، وما أشد داء هذا الصرع ، ولكن لما
عمت البلية به بحيث لا يرى إلا مصروعاً ، لم يصر مستغرباً ولا
مستنكراً ، بل صار لكثرة المصروعين عين المستنكر المستغرب خلافه
.
فإذا أراد الله بعبد خيراً أفاق من هذه الصرعة ، ونظر إلى أبناء
الدنيا مصروعين حوله يميناً وشمالاً على اختلاف طبقاتهم ، فمنهم من
أطبق به الجنون ، ومنهم من يفيق أحياناً قليلة ، ويعود إلى جنونه ،
ومنهم من يفيق مرة ، ويجن أخرى ، فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة
والعقل ، ثم يعاوده الصرع فيقع في التخبط .
فصل
روى ابن ماجه في
سننه من حديث محمد بن سيرين ، عن أنس بن مالك ، قال : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : " دواء عرق النسا ألية شاة أعرابية
تذاب ، ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ، ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء " .
عرق النساء : وجع
يبتدئ من مفصل الورك ، وينزل من خلف على الفخذ ، وربما على الكعب ،
وكلما طالت مدته ، زاد نزوله ، وتهزل معه الرجل والفخذ ، وهذا
الحديث فيه معنى لغوي ، ومعنى طبي . فأما المعنى اللغوي ، فدليل
على جواز تسمية هذا المرض بعرق النسا خلافاً لمن منع هذه التسمية ،
وقال : النسا هو العرق نفسه ، فيكون من باب إضافة الشئ إلى نفسه ،
وهو ممتنع وجواب هذا القائل من وجهين . أحدهما : أن العرق أعم من
النسا ، فهو من باب إضافة العام إلى الخاص نحو : كل الدراهم أو
بعضها .
الثاني : أن النسا : هو المرض الحال بالعرق ، والإضافة فيه من باب
إضافة الشئ إلى محله وموضعه . قيل : وسمي بذلك لأن ألمه ينسي ما
سواه ، وهذا العرق ممتد من مفصل الورك ، وينتهي إلى آخر القدم وراء
الكعب من الجانب الوحشي فيما بين عظم الساق والوتر .
وأما المعنى الطبي : فقد تقدم أن كلام رسول الله صلى الله عليه
وسلم نوعان : أحدهما : عام بحسب الأزمان ، والأماكن ، والأشخاص ،
والأحوال .
والثاني : خاص بحسب هذه الأمور أو بضعها ، وهذا من هذا القسم ، فإن
هذا خطاب للعرب ، وأهل الحجاز ، ومن جاورهم ، ولا سيما أعراب
البوادي ، فإن هذا العلاج من أنفع العلاج لهم ، فإن هذا المرض يحدث
من يبس ، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة ، فعلاجها بالإسهال والألية
فيها الخاصيتان : الإنضاج ، والتليين ، ففيها الإنضاج ، والإخراج .
وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين ، وفي تعيين الشاة
الأعرابية لقلة فضولها ، وصغر مقدارها ، ولطف جوهرها ، وخاصية
مرعاها لأنها ترعى أعشاب البر الحارة ، كالشيح ، والقيصوم ،
ونحوهما ، وهذه النباتات إذا تغذى بها الحيوان ، صار في لحمه من
طبعها بعد أن يلطفها تغذيه بها ، ويكسبها مزاجاً ألطف منها ، ولا
سيما الألية ، وظهور فعل هذه النباتات في اللبن أقوى منه في اللحم
، ولكن الخاصية التي في الألية من الإنضاج والتليين لا توجد في
اللبن ، وهذا كما تقدم أن أدوية غالب الأمم والبوادي هي الأدوية
المفردة ، وعليه أطباء الهند .
وأما الروم واليونان ، فيعتنون بالمركبة ، وهم متفقون كلهم على أن
من مهارة الطبيب أن يداوي بالغذاء ، فإن عجز فبالمفرد ، فإن عجز ،
فبما كان أقل تركيباً .
وقد تقدم أن غالب عادات العرب وأهل البوادي الأمراض البسيطة ،
فالأدوية البسيطة تناسبها ، وهذا لبساطة أغذيتهم في الغالب . وأما
الأمراض المركبة ، فغالباً ما تحدث عن تركيب الأغذية وتنوعها
واختلافها ، فاختيرت لها الأدوية المركبة ، والله تعالى أعلم .
فصل
روى الترمذي في
جامعه وابن ماجه في سننه من حديث أسماء بنت عميس ، قالت : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بماذا كنت تستمشين ؟ قالت :
بالشبرم ، قال : حار جار ، قالت : ثم استمشيت بالسنا ، فقال :
لو كان شئ يشفي من الموت لكان السنا " .
وفي سنن ابن ماجه عن إبراهيم بن أبي عبلة ، قال : سمعت عبد الله
بن أم حرام ، وكان قد صلى مع رسول الله صلى الله وسلم القبلتين
يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " عليكم بالسنا
والسنوت ، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام ، قيل : يا رسول
الله ! وما السام ؟ قال : الموت " .
قوله : بماذا كنت تستمشين ؟ أي : تلينين الطبع حتى يمشي ولا يصير
بمنزلة الواقف ، فيؤذي باحتباس النجو ، ولهذا سمي الدواء المسهل
مشياً على وزن فعيل . وقيل : لأن المسهول يكثر المشي والإختلاف
للحاجة وقد روي : بماذا تستشفين ؟ فقالت : بالشبرم ، وهو من
جملة الأدوية اليتوعية ، وهو قشر عرق شجرة ، وهو حار يابس في
الدرجة الرابعة ، وأجوده المائل إلى الحمرة ، الخفيف الرقيق الذي
يشبه الجلد الملفوف ، وبالجملة فهو من الأدوية التي أوصى الأطباء
بترك استعمالها لخطرها ، وفرط إسهالها .
وقوله صلى الله عليه وسلم : حار جار ويروى : حار يار ، قال أبو
عبيد : وأكثر كلامهم بالياء . قلت : وفيه قولان ، أحدهما : أن
الحار الجار بالجيم : الشديد الإسهال ، فوصفه بالحرارة ، وشدة
الإسهال وكذلك هو ، قاله أبو حنيفة الدينوري .
والثاني - وهو الصواب - أن هذا من الإتباع الذي يقصد به تأكيد
الأول ، ويكون بين التأكيد اللفظي والمعنوي ، ولهذا يراعون فيه
إتباعه في أكثر حروفه ، كقولهم : حسن بسن ، أي : كامل الحسن ،
وقولهم : حسن قسن بالقاف ، ومنه شيطان ليطان ، وحار جار ، مع أن في
الجار معنى آخر ، وهو الذي يجر الشئ الذي يصيبه من شدة حرارته
وجذبه له ، كأنه ينزعه ويسلخه . ويار : إما لغة في جار ، كقولهم :
صهري وصهريج ، والصهاري والصهاريج ، وإما إتباع مستقل .
وأما السنا ، ففيه لغتان : المد والقصر ، وهو نبت حجازي أفضله
المكي ، وهو دواء شريف مأمون الغائلة ، قريب من الإعتدال ، حار
يابس فى الدرجة الأولى ، يسهل الصفراء والسوداء ، ويقوي جرم القلب
، وهذه فضيلة شريفة فيه ، وخاصيته النفع من الوسواس السوداوي ، ومن
الشقاق العارض في البدن ، ويفتح العضل وينفع من انتشار الشعر ، ومن
القمل والصداع العتيق ، والجرب ، والبثور ، والحكة ، والصرع ، وشرب
مائه مطبوخاً أصلح من شربه مدقوقاً ، ومقدار الشربة منه ثلاثة
دراهم ، ومن مائه خمسة دراهم ، وإن طبخ معه شئ من زهر البنفسج
والزبيب الأحمر المنزوع العجم ، كان أصلح .
قال الرازي : السناء والشاهترج يسهلان الأخلاط المحترقة ، وينفعان
من الجرب والحكة ، والشربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى
سبعة دراهم .
وأما السنوت ففيه ثمانية أقوال ، أحدها : أنه العسل . والثاني :
أنه رب عكة السمن يخرج خططاً سوداء على السمن ، حكاهما عمرو بن بكر
السكسكي . الثالث : أنه حب يشبه الكمون وليس به ، قاله ابن
الأعرابي .
الرابع : أنه الكمون الكرماني . الخامس : أنه الرازيانج . حكاهما
أبو حنيفة الدينوري عن بعض الأعراب . السادس : أنه الشبت . السابع
: أنه التمر حكاهما أبو بكر بن السنى الحافظ . الثامن : أنه العسل
الذي يكون في زقاق السمن ، حكاه عبد اللطيف البغدادي . قال بعض
الأطباء : وهذا أجدر بالمعنى ، وأقرب إلى الصواب ، أي : يخلط
السناء مدقوقاً بالعسل المخالط للسمن ، ثم يلعق فيكون أصلح من
استعماله مفرداً لما في العسل والسمن من إصلاح السنا ، وإعانته له
على الإسهال . والله أعلم .
وقد روى الترمذي وغيره من حديث ابن عباس يرفعه : " إن خير ما
تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي " والمشي : هو الذي
يمشي الطبع ويلينه ويسهل خروج الخارج .
فصل
في الصحيحين من حديث
قتادة ، "عن أنس بن مالك قال : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم
لعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في
لبس الحرير لحكة كانت بهما" .
وفي رواية : "ن عبد
الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما ، شكوا
القمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة لهما ، فرخص لهما في
قمص الحرير ، ورأيته عليهما " .
هذا الحديث يتعلق به أمران : أحدهما : فقهي ، والآخر طبي .
فأما الفقهي : فالذي استقرت عليه سنته صلى الله عليه وسلم إباحة
الحرير للنساء مطلقاً ، وتحريمه على الرجال إلا لحاجة ومصلحة راجحة
، فالحاجة إما من شدة البرد ، ولا يجد غيره ، أو لا يجد سترة سواه
. ومنها : لباسه للجرب ، والمرض ، والحكة ، وكثرة القمل كما دل
عليه حديث أنس هذا الصحيح .
والجواز : أصح الروايتين عن الإمام أحمد ، وأصح قولي الشافعي ، إذ
الأصل عدم التخصيص ، والرخصة إذا ثبتت في حق بعض الأمة لمعنى تعدت
إلى كل من وجد فيه ذلك المعنى ، إذ الحكم يعم بعموم سببه .
ومن منع منه ، قال : أحاديث التحريم عامة ، وأحاديث الرخصة يحتمل
اختصاصها بعبد الرحمن بن عوف والزبير ، ويحتمل تعديها إلى غيرهما .
وإذا احتمل الأمران ، كان الأخذ بالعموم أولى ، ولهذا قال بعض
الرواة في هذا الحديث : فلا أدري أبلغت الرخصة من بعدهما ، أم لا ؟
والصحيح : عموم الرخصة ، فإنه عرف خطاب الشرع في ذلك ما لم يصرح
بالتخصيص ، وعدم إلحاق غير من رخص له أولاً به ، كقوله لأبي بردة
في تضحيته بالجذعة من المعز : " تجزيك ولن تجزي عن أحد بعدك "
وكقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في نكاح من وهبت نفسها له :
" خالصة لك من دون المؤمنين " [ الأحزاب : 50 ] .
وتحريم الحرير : إنما كان سداً للذريعة ، ولهذا أبيح للنساء ،
وللحاجة ، والمصلحة الراجحة ، وهذه قاعدة ما حرم لسد الذرائع ،
فإنه يباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة ، كما حرم النظر سداً
لذريعة الفعل ، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة والمصلحة الراجحة ،
وكما حرم التنفل بالصلاة في أوقات النهي سداً لذريعة المشابهة
الصورية بعباد الشمس ، وأبيحت للمصلحة الراجحة ، وكما حرم ربا
الفضل سداً لذريقة ربا النسيئة ، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من
العرايا ، وقد أشبعنا الكلام فيما يحل ويحرم من لباس الحرير في
كتاب التحبير لما يحل ويحرم من لباس الحرير .
فصل
وأما الأمر الطبي : فهو أن الحرير من الأدوية المتخذة من الحيوان ،
ولذلك يعد في الأدوية الحيوانية ، لأن مخرجه من الحيوان ، وهو كثير
المنافع ، جليل الموقع ، ومن خاصيته تقوية القلب ، وتفريحه ،
والنفع من كثير من أمراضه ، ومن غلبة المرة السوداء ، والأدواء
الحادثة عنها ، وهو مقو للبصر إذا اكتحل به ، والخام منه - وهو
المستعمل في صناعة الطب - حار يابس في الدرجة الأولى . وقيل : حار
رطب فيها : وقيل : معتدل . وإذا اتخذ منه ملبوس كان معتدل الحرارة
في مزاجه ، مسخناً للبدن ، وربما برد البدن بتسمينه إياه .
قال الرازي : الإبريسم أسخن من الكتان ، وأبرد من القطن ، يربى
اللحم ، وكل لباس خشن ، فإنه يهزل ، ويصلب البشرة وبالعكس .
قلت : والملابس ثلاثة
أقسام : قسم يسخن البدن ويدفئه ، وقسم يدفئه ولا يسخنه ، وقسم لا
يسخنه ولا يدفئه ، وليس هناك ما يسخنه ولا يدفئه ، إذ ما يسخنه فهو
أولى بتدفئته ، فملابس الأوبار والأصواف تسخن وتدفئ ، و ملابس
الكتان والحرير والقطن تدفئ ولا تسخن ، فثياب الكتان باردة يابسة ،
وثياب الصوف حارة يابسة ، وثياب القطن معتدلة الحرارة ، وثياب
الحرير ألين من القطن وأقل حرارة منه .
قال صاحب المنهاج : ولبسه لا يسخن كالقطن ، بل هو معتدل ، كل
لباس أملس صقيل ، فإنه أقل إسخاناً للبدن ، وأقل عوناً في تحلل ما
يتحلل منه ، وأحرى أن يلبس في الصيف ، وفي البلاد الحارة .
ولما كانت ثياب الحرير كذلك ، وليس فيها شئ من اليبس والخشونة
الكائين في غيرها ، صارت نافعة من الحكة ، إذ الحكة لا تكون إلا عن
حرارة ويبس وخشونة ، فلذلك رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم
للزبير وعبد الرحمن في لباس الحرير لمداواة الحكة ، وثياب الحرير
أبعد عن تولد القمل فيها ، إذ كان مزاجها مخالفاً لمزاج ما يتولد
منه القمل .
وأما القسم الذي لا يدفئ ولا يسخن ، فالمتخذ من الحديد والرصاص ،
والخشب والتراب ، ونحوها ، فإن قيل : فإذا كان لباس الحرير أعدل
اللباس وأوفقه للبدن ، فلماذا حرمته الشريعة الكاملة الفاضلة التي
أباحت الطيبات ، وحرمت الخبائث ؟
قيل : هذا السؤال يجيب عنه كل طائفة من طوائف المسلمين بجواب ،
فمنكرو الحكم والتعليل لما رفعت قاعدة التعليل من أصلها لم يحتاجوا
إلى جواب عن هذا السؤال .
ومثبتو التعليل والحكم - وهم الأكثرون - منهم من يجيب عن هذا بأن
الشريعة حرمته لتصبر النفوس عنه ، وتتركه لله ، فتثاب على ذلك لا
سيما ولها عوض عنه بغيره .
ومنهم من يجيب عنه بأنه خلق في الأصل للنساء ، كالحلية بالذهب ،
فحرم على الرجال لما فيه من مفسدة تشبه الرجال بالنساء ، ومنهم من
قال : حرم لما يورثه من الفخر والخيلاء والعجب . ومنهم من قال :
حرم لما يورثه بملامسته للبدن من الأنوثة والتخنث ، وضد الشهامة
والرجولة ، فإن لبسه يكسب القلب صفة من صفات الإناث ، ولهذا لا
تكاد تجد من يلبسه في الأكثر إلا وعلى شمائله من التخنث والتأنث ،
والرخاوة ما لا يخفى ، حتى لو كان من أشهم الناس وأكثرهم فحولية
ورجولية ، فلا بد أن ينقصه لبس الحرير منها ، وإن لم يذهبها ، ومن
غلظت طباعه وكثفت عن فهم هذا ، فليسلم للشارع الحكيم ، ولهذا كان
أصح القولين : أنه يحرم على الولي أن يلبسه الصبي لما ينشأ عليه من
صفات أهل التأنيث .
وقد روى النسائي من حديث أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال : " إن الله أحل لإناث أمتي الحرير والذهب ،
وحرمه على ذكورها " . وفي لفظ : " حرم لباس الحرير والذهب على ذكور
أمتي ، وأحل لإناثهم " .
وفي صحيح البخاري عن حذيفة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن لبس الحرير والديباج ، وأن يجلس عليه ، وقال : " هو لهم في
الدنيا ، ولكم في الآخرة " .
0 التعليقات:
إرسال تعليق