المرض
    : 
    نوعان : مرض القلوب ، ومرض الأبدان ، وهما مذكوران في القرآن .
    ومرض القلوب : نوعان : 
    مرض شبهة وشك ، ومرض شهوة وغي ، وكلاهما في القرآن . قال تعالى في 
    مرض الشبهة : " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا " [ البقرة : 110 ] 
    وقال تعالى : " وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد 
    الله بهذا مثلا " [ المدثر : 31 ] وقال تعالى في حق من دعي إلى 
    تحكيم القرآن والسنة ، فأبى وأعرض : " وإذا دعوا إلى الله ورسوله 
    ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه 
    مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم 
    ورسوله بل أولئك هم الظالمون " [ النور : 48 و 49 ] فهذا مرض 
    الشبهات والشكوك .
    وأما مرض الشهوات ، 
    فقال تعالى : " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا 
    تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض " [ الأحزاب : 32 ] . فهذا 
    مرض شهوة الزنى ، والله أعلم .
    فصل
    وأما مرض الأبدان ، 
    فقال تعالى : " ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على 
    المريض حرج " [ النور : 61 ] ، وذكر مرض البدن في الحج والصوم 
    والوضوء لسر بديع يبين لك عظمة القرآن ، والإستغناء به لمن فهمه 
    وعقله عن سواه ، وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة : حفظ الصحة ، 
    والحمية عن المؤذي ، واستفراغ المواد الفاسدة ، فذكر سبحانه هذه 
    الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة .
    فقال في آية الصوم : " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام 
    أخر " [ البقرة : 184 ] ، فأباح الفطر للمريض لعذر المرض ، 
    وللمسافر طلباً لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر 
    لاجتماع شدة الحركة ، وما يوجبه من التحليل ، وعدم الغذاء الذي 
    يخلف ما تحلل ، فتخور القوة ، وتضعف ، فأباح للمسافر الفطر حفظاً 
    لصحته وقوته عما يضعفها .
    وقال في آية الحج : " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية 
    من صيام أو صدقة أو نسك " [ البقرة : 196 ) ، فأباح للمريض ، ومن 
    به أذى من رأسه ، من قمل ، أو حكة ، أو غيرهما ، أن يحلق رأسه في 
    الإحرام استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في 
    رأسه باحتقانها تحت الشعر ، فإذا حلق رأسه ، تفتحت المسام ، فخرجت 
    تلك الأبخرة منها ، فهذا الإستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي 
    انحباسه .
    والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة : الدم إذا هاج ، 
    والمني إذا تبيغ ، والبول ، والغائط ، والريح ، والقئ ، والعطاس ، 
    والنوم ، والجوع ، والعطش . وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء 
    من الأدواء بحسبه .
    وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها ، وهو البخار المحتقن في الرأس على 
    استفراغ ما هو أصعب منه ، كما هي طريقة القرآن التنبيه بالأدنى على 
    الأعلى .
    وأما الحمية : فقال تعالى في آية الوضوء : " وإن كنتم مرضى أو على 
    سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء 
    فتيمموا صعيدا طيبا " [ النساء : 43 ) ، فأباح للمريض العدول عن 
    الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما  يؤذيه ، وهذا تنبيه على 
    الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج ، فقد أرشد - سبحانه - عباده 
    إلى أصول الطب ومجامع قواعده ، ونحن نذكر هدي رسول الله صلى الله 
    عليه وسلم في ذلك ، ونبين أن هديه فيه أكمل هدي .
    فأما طب القلوب ، فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا 
    سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم ، فإن صلاح القلوب أن 
    تكون عارفة بربها ، وفاطرها ، وبأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، 
    وأحكامه ، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابه ، متجنبة لمناهيه ومساخطه 
    ، ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك ، ولا سبيل إلى تلقيه إلا 
    من جهة الرسل ، وما يظن من حصول صحة
    القلب بدون اتباعهم ، فغلط ممن يظن ذلك ، وإنما ذلك حياة نفسه 
    البهيمية الشهوانية ، وصحتها وقوتها ، وحياة قلبه وصحته ، وقوته عن 
    ذلك بمعزل ، ومن لم يميز بين هذا وهذا ، فليبك على حياة قلبه ، 
    فإنه من الأموات ، وعلى نوره ، فإنه منغمس في بحار الظلمات .
فصل
نوع قد فطر الله 
    عليه الحيوان ناطقه وبهيمه ، فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب ، 
    كطب الجوع ، والعطش ، والبرد ، والتعب بأضدادها وما يزيلها .
والثاني : ما يحتاج 
    إلى فكر وتأمل ، كدفع الأمراض المتشابهة الحادثة في المزاج ، بحيث 
    يخرج بها عن الإعتدال ، إما إلى حرارة ، أو برودة ، أو يبوسة ، أو 
    رطوبة ، أو ما يتركب من اثنين منها ، وهي نوعان : إما مادية ، وإما 
    كيفية ، أعني إما أن يكون بانصباب مادة ، أو بحدوث كيفية ، والفرق 
    بينهما أن أمراض الكيفية تكون بعد زوال المواد التي أوجبتها ، 
    فتزول موادها ، ويبقى أثرها كيفية في المزاج .
وأمراض المادة 
    أسبابها معها تمدها ، وإذا كان سبب المرض معه ، فالنظر في السبب 
    ينبغي أن يقع أولاً ، ثم في المرض ثانياً ، ثم في الدواء ثالثاً . 
    أو الأمراض الآلية وهي التي تخرج العضو عن هيئته ، إما في شكل ، أو 
    تجويف ، أو مجرى ، أو خشونة ، أو ملاسة ، أو عدد ، أو عظم ، أو وضع 
    ، فإن هذه الأعضاء إذا تألفت وكان منها البدن سمي تألفها اتصالاً ، 
    والخروج عن الإعتدال فيه يسمى تفرق الإتصال ، أو الأمراض العامة 
    التي تعم المتشابهة والآلية .
والأمراض المتشابهة 
    : هي التي يخرج بها المزاج عن الإعتدال ، وهذا الخروج يسمى مرضاً 
    بعد أن يضر بالفعل إضراراً محسوساً .
وهي على ثمانية أضرب 
    : أربعة بسيطة ، وأربعة مركبة ، فالبسيطة : البارد ، والحار ، 
    والرطب ، واليابس ، والمركبة : الحار الرطب ، والحار اليابس ، 
    والبارد الرطب ، والبارد اليابس ، وهي إما أن تكون بانصباب مادة ، 
    أو بغير انصباب مادة ، وإن لم يضر المرض بالفعل يسمى خروجاً عن 
    الإعتدال صحة .
وللبدن ثلاثة أحوال 
    : حال طبيعية ، وحال خارجة عن الطبيعية ، وحال متوسطة بين الأمرين 
    . فالأولى : بها يكون البدن صحيحاً ، والثانية : بها يكون مريضاً . 
    والحال الثالثة : هي متوسطة بين الحالتين ، فإن الضد لا ينتقل إلى 
    ضده إلا بمتوسط ، وسبب خروج البدن عن طبيعته ، إما من داخله ، لأنه 
    مركب من الحار والبارد ، والرطب واليابس ، وإما من خارج ، فلأن ما 
    يلقاه قد يكون  موافقاً ، وقد يكون غير موافق ، والضرر الذي يلحق 
    الإنسان قد يكون من سوء المزاج بخروجه عن الإعتدال ، وقد يكون من 
    فساد في العضو ، وقد يكون من ضعف في القوى ، أو الأرواح الحاملة 
    لها ، ويرجع ذلك إلى زيادة ما الإعتدال في عدم زيادته ، أو نقصان 
    ما الإعتدال في عدم نقصانه ، أو تفرق ما الإعتدال في اتصاله ، أو 
    اتصال ما الإعتدال في تفرقه ، أو امتداد ما الإعتدال في انقباضه ، 
    أو خروج ذي وضع وشكل عن وضعه وشكله بحيث يخرجه عن اعتداله .
فالطبيب : هو الذي 
    يفرق ما يضر بالإنسان جمعه ، أو يجمع فيه ما يضره تفرقه ، أو ينقص 
    منه ما يضره زيادته ، أو يزيد فيه ما يضره نقصه ، فيجلب الصحة 
    المفقودة ، أو يحفظها بالشكل والشبه ، ويدفع العلة الموجودة بالضد 
    والنقيض ، ويخرجها ، أو يدفعها بما يمنع من حصولها بالحمية ، وسترى 
    هذا كله في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم شافياً كافياً بحول 
    الله وقوته ، وفضله ومعونته .
    فصل
    فكان من هديه صلى الله عليه وسلم فعل التداوي في نفسه ، والأمر به 
    لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه ، ولكن لم يكن من هديه ولا هدي 
    أصحابه استعمال هذه الأدوية المركبة التي تسمى أقرباذين ، بل كان 
    غالب أدويتهم بالمفردات ، وربما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه ، أو 
    يكسر سورته ، وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها من العرب 
    والترك ، وأهل البوادي قاطبة ، وإنما عني بالمركبات الروم 
    واليونانيون ، وأكثر طب الهند بالمفردات .
    وقد اتفق الأطباء على 
    أنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا يعدل عنه إلى الدواء ، ومتى أمكن 
    بالبسيط لا يعدل عنه إلى المركب .
    قالوا : وكل داء قدر 
    على دفعه بالأغذية والحمية ، لم يحاول دفعه بالأدوية .
    قالوا : ولا ينبغي للطبيب أن يولع بسقي الأدوية ، فإن الدواء إذا 
    لم يجد في البدن داء يحلله ، أو وجد داء لا يوافقه ، أو وجد ما 
    يوافقه فزادت كميته عليه ، أو كيفيته ، تشبث بالصحة ، وعبث بها . 
    وأرباب التجارب من الأطباء طبهم بالمفردات غالباً ، وهم أحد فرق 
    الطب الثلاث .
    والتحقيق في ذلك أن الأدوية من جنس الأغذية ، فالأمة والطائفة التي 
    غالب أغذيتها المفردات ، أمراضها قليلة جداً ، وطبها بالمفردات ، 
    وأهل المدن الذين غلبت عليهم الأغذية المركبة يحتاجون إلى الأدوية 
    المركبة ، وسبب ذلك أن أمراضهم في الغالب مركبة ، فالأدوية المركبة 
    أنفع لها ، وأمراض أهل البوادي والصحاري مفردة ، فيكفي في مداواتها 
    الأدوية المفردة ، فهذا برهان بحسب الصناعة الطبية .
    ونحن نقول : إن ها هنا أمراً آخر ، نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب 
    الطرقية والعجائز إلى طبهم ، وقد اعترف به حذاقهم  وأئمتهم ، فإن 
    ما عندهم من العلم بالطب منهم من يقول : هو قياس . ومنهم من يقول : 
    هو تجربة . ومنهم من يقول : هو إلهامات ، ومنامات ، وحدس صائب . 
    ومنهم من يقول : أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية ، كما نشاهد 
    السنانير إذا أكلت ذوات السموم تعمد إلى السراج ، فتلغ في الزيت 
    تتداوى به ، وكما رؤيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض ، وقد عشيت 
    أبصارها تأتي إلى ورق الرازيانج ، فتمر عيونها عليها . وكما عهد من 
    الطير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه ، وأمثال ذلك مما ذكر 
    في مبادئ الطب .
    وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما 
    ينفعه ويضره ، فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما 
    عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء ، بل ها هنا من الأدوية 
    التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم 
    تصل إليها علومهم وتجاربهم ، وأقيستهم من الأدوية القلبية ، 
    والروحانية ، وقوة القلب ، واعتماده على الله ، والتوكل عليه ، 
    والإلتجاء إليه ، والإنطراح والإنكسار بين يديه ، والتذلل له ، 
    والصدقة ، والدعاء ، والتوبة ، والإستغفار ، والإحسان إلى الخلق ، 
    وإغاثة الملهوف ، والتفريج عن المكروب ، فإن هذه الأدوية قد جربتها 
    الأمم على اختلاف أديانها ومللها ، فوجدوا لها من التأثير في 
    الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ، ولا تجربته ، ولا قياسه 
    .
    وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرة ، ورأيناها تفعل ما لا 
    تفعل الأدوية الحسية ، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة أدوية 
    الطرقية عند الأطباء ، وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس 
    خارجاً عنها ، ولكن الأسباب متنوعة فإن القلب متى اتصل برب 
    العالمين ، وخالق الداء والدواء ، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما 
    يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد 
    منه المعرض عنه ، وقد علم أن الأرواح متى قويت ، وقويت النفس 
    والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره ، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته 
    ونفسه ، وفرحت بقربها من بارئها ، وأنسها به ، وحبها له ، وتنعمها 
    بذكره ، وانصراف قواها كلها إليه ، وجمعها عليه ، واستعانتها به ، 
    وتوكلها عليه ، أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية ، وأن توجب لها 
    هذه القوة دفع الألم بالكلية ، ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس ، 
    وأغلظهم حجاباً ، وأكثفهم نفساً ، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة 
    الإنسانية ، وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة 
    داء اللدغة عن اللديغ التي رقي بها ، فقام حتى كأن ما به قلبة .
    فهذان نوعان من الطب النبوي ، نحن بحول الله نتكلم عليهما بحسب 
    الجهد والطاقة ، ومبلغ علومنا القاصرة ، ومعارفنا المتلاشية جداً ، 
    وبضاعتنا المزجاة ، ولكنا نستوهب من بيده الخير كله ، ونستمد من 
    فضله ، فإنه العزيز الوهاب .
    فصل
    روى مسلم في  صحيحه  : من حديث أبى الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، 
    عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " لكل داء دواء ، فإذا 
    أصيب دواء الداء ، برأ بإذن الله عز وجل " .
    وفي  الصحيحين  : عن 
    عطاء ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " 
    ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء " .
    وفي  مسند الإمام 
    أحمد  : من حديث زياد بن علاقة ، عن أسامة بن شريك ، قال : كنت عند 
    النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءت الأعراب ، فقالوا : يا رسول الله 
    ! أنتداوى ؟ فقال : " نعم يا عباد الله تداووا ، فإن الله عز وجل 
    لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد  ، قالوا : ما هو ؟ قال 
    :  الهرم " .
    وفي لفظ : " إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه 
    وجهله من جهله " .
    وفي  المسند  : من حديث ابن مسعود يرفعه : " إن الله عز وجل لم 
    ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه ، وجهله من جهله " وفي  
    المسند  و  السنن  : عن أبي خزامة ، قال : قلت : يا رسول الله ! 
    أرأيت رقى نسترقيها ، ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل ترد من 
    قدر الله شيئاً ؟ فقال : " هي من قدر الله " .
    فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات ، وإبطال قول من 
    أنكرها ، ويجوز أن يكون قوله : " لكل داء دواء " ، على عمومه حتى 
    يتناول الأدواء القاتلة ، والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها ، 
    ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها ، ولكن طوى علمها عن 
    البشر ، ولم يجعل لهم إليه سبيلاً ، لأنه لا علم للخلق إلا ما 
    علمهم الله ، ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء على 
    مصادفة الدواء للداء ، فإنه لا شئ من المخلوقات إلا له ضد ، وكل 
    داء له ضد من الدواء يعالج بضده ، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم 
    البرء بموافقة الداء للدواء ، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده ، فإن 
    الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية، أو زاد في الكمية على ما 
    ينبغي ، نقله إلى داء آخر ، ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته ، وكان 
    العلاج قاصراً ، ومتى لم يقع المداوي على الدواء ، أو لم يقع 
    الدواء على الداء ، لم يحصل الشفاء ، ومتى لم يكن الزمان صالحاً 
    لذلك الدواء ، لم ينفع ، ومتى كان البدن غير قابل له ، أو القوة 
    عاجزة عن حمله ، أو ثم مانع يمنع من تأثيره ، لم يحصل البرء لعدم 
    المصادفة ، ومتى تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد ، وهذا 
    أحسن المحملين في الحديث .
    والثاني : أن يكون من العام المراد به الخاص ، لا سيما والداخل في 
    اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه ، وهذا يستعمل في كل لسان ، ويكون 
    المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء ، فلا يدخل 
    في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء ، وهذا كقوله تعالى في الريح 
    التي سلطها على قوم عاد : " تدمر كل شيء بأمر ربها " [ الأحقاف : 
    25 ] أي كل شئ يقبل التدمير ، ومن شأن الريح أن تدمره ، ونظائره 
    كثيرة .
    ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ، ومقاومة بعضها لبعض ، ودفع 
    بعضها ببعض ، وتسليط بعضها على بعض ، تبين له كمال قدرة الرب تعالى 
    ، وحكمته ، وإتقانه ما صنعه ، وتفرده بالربوبية ، والوحدانية ، 
    والقهر ، وأن كل ما سواه فله ما يضاده  ويمانعه ، كما أنه الغني 
    بذاته ، وكل ما سواه محتاج بذاته .
    وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي ، وأنه لا ينافي التوكل ، كما 
    لا ينافيه دفع داء الجوع ، والعطش ، والحر ، والبرد بأضدادها ، بل 
    لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات 
    لمسبباتها قدراً وشرعاً ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما 
    يقدح في الأمر والحكمة ، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى 
    في التوكل ، فإن تركها عجزاً ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد 
    القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ، ودفع ما 
    يضره في دينه ودنياه ، ولا بد مع هذا الإعتماد من مباشرة الأسباب ، 
    وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ، ولا 
    توكله عجزاً .
    وفيها رد على من أنكر التداوي ، وقال : إن كان الشفاء قد قدر ، 
    فالتداوي لا يفيد ، وإن لم يكن قد قدر ، فكذلك . وأيضاً ، فإن 
    المرض حصل بقدر الله ، وقدر الله لا يدفع ولا يرد ، وهذا السؤال هو 
    الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما أفاضل 
    الصحابة ، فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا ، وقد 
    أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما شفى وكفى ، فقال : هذه 
    الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله ، فما خرج شئ عن قدره ، بل 
    يرد قدره بقدره ، وهذا الرد من قدره ، فلا سبيل إلى الخروج عن قدره 
    بوجه ما ، وهذا كرد قدر الجوع ، والعطش والحر ، والبرد بأضدادها ، 
    وكرد قدر العدو بالجهاد وكل من قدر الله : الدافع ، والمدفوع 
    والدفع .
    ويقال لمورد هذا السؤال : هذا يوجب عليك أن لا تباشر سبباً من 
    الأسباب التي تجلب بها منفعة ، أو تدفع بها مضرة ، لأن المنفعة 
    والمضرة إن قدرتا ، لم يكن بد من وقوعهما ، وإن لم تقدرا لم يكن 
    سبيل إلى وقوعهما ، وفي ذلك خراب الدين والدنيا ، وفساد العالم ، 
    وهذا لا يقوله إلا دافع للحق ، معاند له ، فيذكر القدر ليدفع حجة 
    المحق عليه ، كالمشركين الذين قالوا : " لو شاء الله ما أشركنا ولا 
    آباؤنا " [ الأنعام : 148 ] ، و " لو شاء الله ما عبدنا من دونه من 
    شيء نحن ولا آباؤنا " [ النحل : 35 ] ، فهذا قالوه دفعاً لحجة الله 
    عليهم بالرسل .
    وجواب هذا السائل أن يقال : بقي قسم ثالث لم تذكره ، هو أن الله 
    قدر كذا وكذا بهذا السبب ، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب ، وإلا فلا 
    ، فإن قال : إن كان قدر لي السبب ، فعلته ، وإن لم يقدره لي لم 
    أتمكن من فعله .
    قيل : فهل تقبل هذا الإحتجاج من عبدك ، وولدك ، وأجيرك إذا احتج به 
    عليك فيما أمرته به ، ونهيته عنه فخالفك ؟ فإن قبلته ، فلا تلم من 
    عصاك ، وأخذ مالك ، وقذف عرضك ، وضيع حقوقك ، وإن لم تقبله ، فكيف 
    يكون مقبولاً منك في دفع حقوق الله عليك. وقد روي في أثر إسرائيلي 
    : أن إبراهيم الخليل قال : يا رب ممن الداء ؟ قال :  مني  . قال : 
    فممن الدواء  ؟ قال :  مني. قال : فما بال الطبيب ؟ . قال :  رجل 
    أرسل الدواء على يديه .
    وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " لكل داء دواء" ، تقوية لنفس 
    المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه ، فإن 
    المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله ، تعلق قلبه بروح 
    الرجاء ، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء ، ومتى 
    قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية ، وكان ذلك سببها لقوة الأرواح 
    الحيوانية والنفسانية والطبيعية ، ومتى قويت هذه الأرواح ، قويت 
    القوى التي هي حاملة لها ، فقهرت المرض ودفعته .
    وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه 
    . وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب ، وما جعل الله للقلب 
    مرضاً إلا جعل له شفاء بضده ، فإن علمه صاحب الداء واستعمله ، 
    وصادف داء قلبه ، أبرأه بإذن الله تعالى .
    فصل
في 
    هديه صلى الله عليه وسلم في الإحتماء من التخم ، والزيادة في الأكل 
    على قدر الحاجة ، والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب
    في  المسند  وغيره : عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما ملأ 
    آدمي وعاءً شراً من بطن ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن  صلبه ، فإن 
    كان لا بد فاعلاً ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه " .
    الأمراض نوعان : أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن 
    حتى أضرت بأفعاله الطبيعية ، وهي الأمراض الأكثرية ، وسببها إدخال 
    الطعام على البدن قبل هضم الأول ، والزيادة في القدر الذي يحتاج 
    إليه البدن ، وتناول الأغذية القليلة النفع ، البطيئة الهضم ، 
    والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة ، فإذا ملأ الآدمي 
    بطنه من هذه الأغذية ، واعتاد ذلك ، أورثته أمراضاً متنوعة ، منها 
    بطيء الزوال وسريعه ، فإذا توسط في الغذاء ، وتناول منه قدر الحاجة 
    ، وكان معتدلاً في كميته وكيفيته، كان انتفاع البدن به أكثر من 
    انتفاعه بالغذاء الكثير .
    ومراتب الغذاء ثلاثة : أحدها : مرتبة الحاجة . والثانية : مرتبة 
    الكفاية . والثالثة : مرتبة الفضلة . فأخبر النبي صلى الله عليه 
    وسلم : أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه ، فلا تسقط قوته ، ولا تضف معها 
    ، فإن تجاوزها ، فليأكل في ثلث بطنه ، ويدع الثلث الآخر للماء ، 
    والثالث للنفس ، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب ، فإن البطن إذا 
    امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب ، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن 
    النفس ، وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل ، 
    هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب ، وكسل الجوارح عن الطاعات ، 
    وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع . فامتلاء البطن من الطعام 
    مضر للقلب والبدن .
    هذا إذا كان دائماً أو أكثرياً . وأما إذا كان في الأحيان ، فلا 
    بأس به ، فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من 
    اللبن ، حتى قال : والذي بعثك بالحق ، لا أجد له مسلكاً . وأكل 
    الصحابة بحضرته مراراً حتى شبعوا .
    والشبع المفرط يضعف القوى والبدن ، وإن أخصبه ، وإنما يقوى البدن 
    بحسب ما يقبل من الغذاء ، لا بحسب كثرته .
    ولما كان في الإنسان جزء أرضي ، وجزء هوائي ، وجزء مائي ، قسم 
    النبي صلى الله عليه وسلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة 
    .
    فإن قيل : فأين حظ الجزء الناري ؟
    قيل : هذه مسألة تكلم فيها الأطباء ، وقالوا : إن في البدن جزءاً 
    نارياً بالفعل ، وهو أحد أركانه واسطقساته .
    ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم ، وقالوا : ليس 
    في البدن جزء ناري بالفعل ، واستدلوا بوجوه :
    أحدها : أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى أنه نزل عن الأثير ، 
    واختلط بهذه الأجزاء المائية والأرضية ، أو يقال : إنه تولد فيها 
    وتكون ، والأول مستبعد لوجهين ، أحدهما : أن النار بالطبع صاعدة ، 
    فلو نزلت ، لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم . الثاني : أن 
    تلك الأجزاء النارية لا بد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير 
    التي هي في غاية البرد ، ونحن نشاهد في هذا العالم أن النار 
    العظيمة تنطفئ بالماء القليل ، فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها 
    بكرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ، ونهاية العظم أولى 
    بالانطفاء .
    وأما الثاني : - وهو أن يقال : إنها تكونت ها هنا - فهو أبعد وأبعد 
    ، لأن الجسم الذي صار ناراً بعد أن لم يكن كذلك ، قد كان قبل 
    صيرورته إما أرضاً ، وإما ماء ، وإما هواء لانحصار الأركان في هذه 
    الأربعة ، وهذا الذي قد صار ناراً أولاً ، كان مختلطاً بأحد هذه 
    الأجسام ، ومتصلاً بها ، والجسم الذي لا يكون ناراً إذا اختلط 
    بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها ، لا يكون مستعداً لأن ينقلب 
    ناراً لأنه في نفسه ليس بنار ، والأجسام المختلطة باردة ، فكيف 
    يكون مستعداً لانقلابه ناراً ؟
    فإن قلتم : لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الأجسام ، 
    وتجعلها ناراً بسبب مخالطتها إياها ؟
    قلنا : الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية كالكلام في الأول ، فإن 
    قلتم : إنا نرى من رش الماء على النورة المطفأة تنفصل منها نار ، 
    وإذا وقع شعاع الشمس على البلورة ، ظهرت النار منها ، وإذا ضربنا 
    الحجر على الحديد ، ظهرت النار ، وكل هذه النارية حدثت عند 
    الإختلاط ، وذلك يبطل ما قررتموه في القسم الأول أيضاً .
    قال المنكرون : نحن لا ننكر أن تكون المصاكة الشديدة محدثة للنار ، 
    كما في ضرب الحجارة على الحديد ، أو تكون قوة تسخين الشمس محدثة 
    للنار ، كما في البلورة ، لكنا نستبعد ذلك جداً في أجرام النبات 
    والحيوان ، إذ ليس في أجرامها من الإصطكاك ما يوجب حدوث النار ، 
    ولا فيها من الصفاء والصقال ما يبلغ إلى حد البلورة ، كيف وشعاع 
    الشمس يقع على ظاهرها ، فلا تتولد النار
    البتة ، فالشعاع الذي يصل إلى باطنها كيف يولد النار ؟
    الوجه الثاني : في أصل المسألة : أن الأطباء مجمعون على أن الشراب 
    العتيق في غاية السخونة بالطبع ، فلو كانت تلك السخونة بسبب 
    الأجزاء النارية ، لكانت محالاً إذ تلك الأجزاء النارية مع حقارتها 
    كيف يعقل بقاؤها في الأجزاء المائية الغالبة دهراً طويلاً ، بحيث 
    لا تنطفئ مع أنا نرى النار العظيمة تطفأ بالماء القليل .
    الوجه الثالث : أنه لو كان في الحيوان والنبات جزء ناري بالفعل ، 
    لكان مغلوباً بالجزء المائي الذي فيه ، وكان الجزء الناري مقهوراً 
    به ، وغلبة بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضي انقلاب طبيعة 
    المغلوب إلى طبيعة الغالب ، فكان يلزم بالضرورة انقلاب تلك الأجزاء 
    النارية القليلة جداً إلى طبيعة الماء الذي هو ضد النار
    الوجه الرابع : أن الله سبحانه وتعالى ذكر خلق الإنسان في كتابه في 
    مواضع متعددة ، يخبر في بعضها أنه خلقه من ماء ، وفي بعضها أنه 
    خلقه من تراب ، وفي بعضها أنه خلقه من المركب منهما وهو الطين ، 
    وفي بعضها أنه خلقه من صلصال كالفخار ، وهو الطين الذي ضربته الشمس 
    والريح حتى صار صلصالاً كالفخار ، ولم يخبر في موضع واحد أنه خلقه 
    من نار ، بل جعل ذلك خاصية إبليس . وثبت في  صحيح مسلم  : عن النبي 
    صلى الله عليه وسلم قال : " خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من 
    مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم " ، وهذا صريح في أنه خلق مما 
    وصفه الله في كتابه فقط ، ولم يصف لنا سبحانه أنه خلقه من نار ، 
    ولا أن في مادته شيئاً من النار .
    الوجه الخامس : أن غاية ما يستدلون به ما يشاهدون من الحرارة في 
    أبدان الحيوان ، وهي دليل على الأجزاء النارية ، وهذا لا يدل ، فإن 
    أسباب الحرارة أعم من النار ، فإنها تكون عن النار تارة ، وعن 
    الحركة أخرى ، وعن انعكاس الأشعة ، وعن سخونة الهواء ، وعن مجاورة 
    النار ، وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضاً ، وتكون عن أسباب أخر ، 
    فلا يلزم من الحرارة النار .
    قال أصحاب النار : من المعلوم أن التراب والماء إذا اختلطا فلا بد 
    لهما من حرارة تقتضي طبخهما وامتزاجهما ، وإلا كان كل منهما غير 
    ممازج للآخر ، ولا متحداً به ، وكذلك إذا ألقينا البذر في الطين 
    بحيث لا يصل إليه الهواء ولا الشمس فسد ، فلا يخلو ، إما أن يحصل 
    في المركب جسم منضج طابخ بالطبع أو لا ، فإن حصل ، فهو الجزء 
    الناري ، وإن لم يحصل ، لم يكن المركب مسخناً  بطبعه ، بل إن سخن 
    كان التسخين عرضياً ، فإذا زال التسخين العرضي ، لم يكن الشيء 
    حاراً في طبعه ، ولا في كيفيته ، وكان بارداً مطلقاً ، لكن من 
    الأغذية والأدوية ما يكون حاراً بالطبع ، فعلمنا أن حرارتها إنما 
    كانت ، لأن فيها جوهراً نارياً .
    وأيضاً فلو لم يكن في البدن جزء مسخن لوجب أن يكون في نهاية البرد 
    ، لأن الطبيعة إذا كانت مقتضية للبرد ، وكانت خالية عن المعاون 
    والمعارض ، وجب انتهاء البرد إلى أقصى الغاية ، ولو كان كذلك لما 
    حصل لها الإحساس بالبرد ، لأن البرد الواصل إليه إذا كان في الغاية 
    كان مثله ، والشئ لا ينفعل عن مثله ، وإذا لم ينفعل عنه لم يحس به 
    ، وإذا لم يحس به لم يتألم عنه ، وإن كان دونه فعدم الإنفعال يكون 
    أولى ، فلو لم يكن في البدن جزء مسخن بالطبع لما انفعل عن البرد ، 
    ولا تألم به . قالوا : وأدلتكم إنما تبطل قول من يقول : الأجزاء 
    النارية باقية في هذه المركبات على حالها ، وطبيعتها النارية ، 
    ونحن لا نقول بذلك ، بل نقول : إن صورتها النوعية تفسد عند 
    الإمتزاج .
    قال الآخرون : لم لا يجوز أن يقال : إن الأرض والماء والهواء إذا 
    اختلطت ، فالحرارة المنضجة الطابخة لها هي حرارة الشمس وسائر 
    الكواكب ، ثم ذلك المركب عند كمال نضجه مستعد لقبول الهيئة 
    التركيبية بواسطة السخونة نباتاً كان أو حيواناً أو معدناً ، وما 
    المانع أن تلك السخونة والحرارة التي في المركبات هي بسبب خواص 
    وقوى يحدثها الله تعالى عند ذلك الإمتزاج لا من أجزاء نارية بالفعل 
    ؟ ولا سبيل لكم إلى إبطال هذا الإمكان البتة ، وقد اعترف جماعة من 
    فضلاء الأطباء بذلك .
    وأما حديث إحساس البدن بالبرد ، فنقول : هذا يدل على أن في البدن 
    حرارة وتسخيناً ، ومن ينكر ذلك ؟ لكن ما الدليل على انحصار المسخن 
    في النار ، فإنه وإن كان كل نار مسخناً ، فإن هذه القضية لا تنعكس 
    كلية ، بل عكسها الصادق بعض المسخن نار .
    وأما قولكم بفساد صورة النار النوعية ، فأكثر الأطباء على بقاء 
    صورتها النوعية ، والقول بفسادها قول فاسد قد اعترف بفساده أفضل 
    متأخريكم في كتابه المسمى بالشفا ، وبرهن على بقاء الأركان أجمع 
    على طبائعها في المركبات . وبالله التوفيق .
    فصل
    وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواع . . .
    أحدها : بالأدوية الطبيعية .
    والثاني : بالأدوية 
    الإلهية .
    والثالث : بالمركب من الأمرين .
    ونحن نذكر الأنواع الثلاثة من هديه صلى الله عليه وسلم ، فنبدأ 
    بذكر الأدوية الطبيعية التي وصفها واستعملها ، ثم نذكر الأدوية 
    الإلهية ، ثم المركبة .
    وهذا إنما نشير إليه إشارة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم 
    إنما بعث هادياً ، وداعياً إلى الله ، وإلى جنته ، ومعرفاً بالله ، 
    ومبيناً للأمة مواقع رضاه وآمراً لهم بها ، ومواقع سخطه وناهياً 
    لهم عنها ، ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم ،
    وأخبار تخليق العالم ، وأمر المبدأ والمعاد ، وكيفية شقاوة النفوس 
    وسعادتها ، وأسباب ذلك .
    وأما طب الأبدان : فجاء من تكميل شريعته ، ومقصوداً لغيره ، بحيث 
    إنما يستعمل عند الحاجة إليه ، فإذا قدر على الإستغناء عنه، كان 
    صرف الهمم والقوى إلى علاج القلوب والأرواح ، وحفظ صحتها ، ودفع 
    أسقامها ، وحميتها مما يفسدها هو المقصود بالقصد الأول ، وإصلاح 
    البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع ، وفساد البدن مع إصلاح القلب 
    مضرته يسيرة جداً ، وهي مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة 
    ، وبالله التوفيق .
ذكر 
    القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية
    فصل
في 
    هديه في علاج الحمى
    ثبت في  الصحيحين  : عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبى صلى الله 
    عليه وسلم قال : " إنما الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم ، فأبردوها 
    بالماء 
    " .
    وقد أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء ، ورأوه منافياً 
    لدواء الحمى وعلاجها ، ونحن نبين بحول الله وقوته وجهه وفقهه ، 
    فنقول : خطاب النبي صلى الله عليه وسلم نوعان : عام لأهل الأرض ، 
    وخاص ببعضهم ، فالأول : كعامة خطابه ،  والثاني : كقوله : " لا 
    تستقبلوا القبلة بغائط ، ولا بول ، ولا تستدبروها ، ولكن شرقوا ، 
    أو غربوا " فهذا ليس بخطاب لأهل المشرق والمغرب ولا العراق ، ولكن 
    لأهل المدينة وما على سمتها ، كالشام وغيرها . وكذلك قوله : " ما 
    بين المشرق والمغرب قبلة 
    " .
    وإذا عرف هذا ، فخطابه في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز ، وما والاهم 
    ، إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية 
    الحادثة عن شدة حرارة الشمس ، وهذه ينفعها الماء البارد شرباً 
    واغتسالاً ، فإن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب ، وتنبث منه 
    بتوسط
    
    
    الروح 
    والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن ، فتشتعل فيه اشتعالاً 
    يضر بالأفعال الطبيعية ، وهي تنقسم إلى قسمين : عرضية : وهي 
    الحادثة إما عن الورم ، أو الحركة ، أو إصابة حرارة الشمس ، أو 
    القيظ الشديد ونحو ذلك 
    .
    ومرضية : وهي ثلاثة أنواع ، وهي لا تكون إلا في مادة أولى ، ثم 
    منها يسخن جميع البدن . فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حمى يوم ، 
    لأنها في الغالب تزول في يوم ، ونهايتها ثلاثة أيام ، وإن كان مبدأ 
    تعلقها بالأخلاط سميت عفنية ، وهي أربعة أصناف : صفراوية ، 
    وسوداوية 
    ،  
    
    وبلغمية ، ودموية . وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية ، 
    سميت حمى دق ، وتحت هذه الأنواع أصناف كثيرة 
    .
    وقد ينتفع البدن بالحمى انتفاعاً عظيماً لا يبلغه الدواء ، وكثيراً 
    ما يكون حمى يوم ، وحمى العفن سبباً لإنضاج مواد غليظة لم تكن تنضج 
    بدونها ، وسبباً لتفتح سدد لم يكن تصل إليها الأدوية المفتحة 
    .
    وأما الرمد الحديث والمتقادم ، فإنها تبرئ أكثر أنواعه برءاً 
    عجيباً سريعاً ، وتنفع من الفالج ، واللقوة ، والتشنج الإمتلائي ، 
    وكثيراً من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة 
    .
    وقال لي بعض فضلاء الأطباء : إن كثيراً من الأمراض نستبشر فيها 
    بالحمى ، كما يستبشر المريض بالعافية ، فتكون الحمى فيه أنفع من 
    شرب الدواء بكثير ، فإنها تنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما يضر 
    بالبدن ، فإذا أنضجتها صادفها الدواء متهيئة للخروج بنضاجها ، 
    فأخرجها ،
    
    
    فكانت 
    سبباً للشفاء 
    .
    وإذا عرف هذا ، فيجوز أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات 
    العرضية ، فإنها تسكن على المكان بالإنغماس في الماء البارد، وسقي 
    الماء البارد المثلوج ، ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر ، 
    فإنها مجرد كيفية حارة متعلقة بالروح ، فيكفي في زوالها مجرد وصول 
    كيفية باردة تسكنها ، وتخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة ، 
    أو انتظار نضج 
    .
    ويجوز أن يراد به جميع أنواع الحميات ، وقد اعترف فاضل الأطباء 
    جالينوس : بأن الماء البارد ينفع فيها ، قال في المقالة العاشرة من 
    كتاب  حيلة البرء  : ولو أن رجلاً شاباً حسن اللحم ، خصب البدن في 
    وقت القيظ ، وفي وقت منتهى الحمى ، وليس في أحشائه ورم ، استحم 
    بماء بارد أو سبح فيه ، لانتفع بذلك . قال : ونحن نأمر بذلك لا 
    توقف 
    .
    وقال الرازي في كتابه الكبير : إذا كانت القوة قوية ، والحمى ، 
    حادة جداً ، والنضج بين ولا ورم في الجوف ، ولا فتق ، ينفع الماء 
    البارد شرباً ، وإن كان العليل خصب البدن والزمان حار ، وكان 
    معتاداً لاستعمال الماء البارد من خارج ، فليؤذن فيه 
    .
    وقوله : " الحمى من فيح جهنم " ، هو شدة لهبها ، وانتشارها ، 
    ونظيره : قوله : " شدة الحر من فيح جهنم " وفيه وجهان 
    .
    أحدهما : أن ذلك أنموذج ورقيقة اشتقت من جهنم ليستدل بها العباد 
    عليها ، ويعتبروا بها ، ثم إن الله سبحانه قدر ظهورها بأسباب 
    تقتضيها ، كما أن الروح والفرح و السرور واللذة من نعيم الجنة 
    أظهرها الله في هذه الدار عبرة ودلالة ، وقدر ظهورها بأسباب توجبها 
    .
    والثاني : أن يكون المراد التشبيه ، فشبه شدة الحمى ولهبها بفيح 
    جهنم ، وشبه شدة الحر به أيضاً تنبيهاً للنفوس على شدة عذاب النار 
    ، وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها ، وهو ما يصيب من قرب منها 
    من حرها 
    .
    وقوله :  فأبردوها  ، روي بوجهين : بقطع الهمزة وفتحها ، رباعي : 
    من أبرد الشئ : إذا صيره بارداً ، مثل أسخنه : إذا صيره سخناً 
    .
    والثاني : بهمزة الوصل مضمومة من برد الشئ يبرده ، وهو أفصح لغة 
    واستعمالاً ، والرباعي لغة رديئة عندهم قال 
    :
    إذا وجدت لهيب الحب في كبدي      أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
    هبني بردت ببرد الماء ظاهره       فمن لنار علي الأحشاء تتقد
    وقوله :  بالماء  ، فيه قولان . أحدهما : أنه كل ماء وهو الصحيح . 
    والثاني : أنه ماء زمزم ، واحتج أصحاب هذا القول بما رواه البخاري 
    في  صحيحه  عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي ، قال : كنت أجالس ابن 
    عباس بمكة ، فأخذتني الحمى ، فقال : أبردها عنك بماء زمزم ، فإن 
    رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الحمى من فيح جهنم 
    فأبردوها بالماء ، أو قال: بماء زمزم " . وراوي هذا قد شك فيه ، 
    ولو جزم به لكان أمراً لأهل مكة بماء زمزم ، إذ هو متيسر عندهم ، 
    ولغيرهم بما عندهم من الماء 
    .
ثم 
    اختلف من قال : إنه على عمومه ، هل المراد به الصدقة بالماء ، أو 
    استعماله ؟ على قولين . والصحيح أنه استعمال ، وأظن أن الذي حمل من 
    قال : المراد الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في 
    الحمى ، ولم يفهم وجهه مع أن لقوله وجهاً حسناً ، وهو أن الجزاء من
    
    
    جنس 
    العمل ، فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد ، أخمد الله 
    لهيب الحمى عنه جزاء وفاقاً ، ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته 
    ، وأما المراد به فاستعماله 
    .
    وقد ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنس يرفعه : " إذا حم أحدكم ، 
    فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر 
    " .
    وفي  سنن ابن ماجه  عن أبي هريرة يرفعه : " الحمى كير من كير جهنم 
    ، فنحوها عنكم بالماء البارد 
    " .
    وفي  المسند  وغيره ، من حديث الحسن ، عن سمرة يرفعه : " الحمى 
    قطعة من النار ، فأبردوها عنكم بالماء البارد " ، وكان رسول الله 
    صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء ، فأفرغها على رأسه 
    فاغتسل 
    .
    وفي  السنن  : من حديث أبي هريرة قال : ذكرت الحمى عند رسول الله 
    صلى الله عليه وسلم ، فسبها رجل ، فقال رسول الله صلى الله عليه 
    وسلم : " لا تسبها فإنها تنفي الذنوب ، كما تنفي النار خبث الحديد 
    " .
    لما كانت الحمى يتبعها حمية عن الأغذية الرديئة ، وتناول الأغذية 
    والأدوية النافعة ، وفي ذلك إعانة على تنقية البدن ، ونفي أخباثه 
    وفضوله ، وتصفيته من مواده الرديئة ، وتفعل فيه كما تفعل النار في 
    الحديد في نفي خبثه ، وتصفية جوهره ، كانت أشبه الأشياء بنار الكير 
    التي تصفي جوهر الحديد ، وهذا القدر هو المعلوم عند أطباء الأبدان 
    .
    وأما تصفيتها القلب من وسخه ودرنه ، وإخراجها خبائثه ، فأمر يعلمه 
    أطباء القلوب ، ويجدونه كما أخبرهم به نبيهم رسول الله صلى الله 
    عليه وسلم ، ولكن مرض القلب إذا صار مأيوساً من برئه ، لم ينفع فيه 
    هذا العلاج 
    .
    فالحمى تنفع البدن والقلب ، وما كان بهذه المثابة فسبه ظلم وعدوان 
    ، وذكرت مرة وأنا محموم قول بعض الشعراء يسبها 
    :
    زارت مكفرة الذنــوب وودعــت      تبــاً لهــا مــن زائــر ومودع
    قالت وقد عزمت على ترحالها      ماذا تريد فقلت أن لا ترجعي
    فقلت : تباً له إذ سب ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبه 
    ، ولو قال 
    :
    زارت مكفــــرة الذنوب لصبهــا       أهلاً بهـــا مــــن زائر 
    ومودع
    قالت وقد عزمت على ترحالها       ماذا تريد فقلت : أن لا تقلعي
    لكان أولى به ، ولأقلعت عنه ، فأقلعت عني سريعاً . وقد روي في أثر 
    لا أعرف حاله  حمى يوم كفارة سنة  ، وفيه قولان أحدهما : أن الحمى 
    تدخل في كل الأعضاء والمفاصل ، وعدتها ثلاثمائة وستون مفصلاً ، 
    فتكفر عنه - بعدد كل مفصل - ذنوب يوم. والثاني : أنها تؤثر في 
    البدن تأثيراً لا يزول بالكلية إلى سنة ، كما قيل في قوله صلى الله 
    عليه وسلم : " من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً " : إن 
    أثر الخمر يبقى في جوف العبد ، وعروقه ، وأعضائه أربعين يوماً 
    والله أعلم 
    .
    قال أبو هريرة : ما من مرض يصيبني أحب إلي من الحمى ، لأنها تدخل 
    في كل عضو مني ، وإن الله سبحانه يعطي كل عضو حظه من الأجر 
    .
    وقد روى الترمذي في  جامعه  من حديث رافع بن خديج يرفعه : " إذا 
    أصابت أحدكم الحمى - وإن الحمى قطعة من النار - فليطفئها بالماء 
    البارد ويستقبل نهراً جارياً ، فليستقبل جرية الماء بعد الفجر وقبل 
    طلوع الشمس ، وليقل : بسم الله اللهم اشف عبدك ، وصدق رسولك ، 
    وينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام ، فان برئ ، والإ ففى خمس ، فإن 
    لم يبرأ في خمس ، فسبع ، فإن لم يبرأ في سبع فتسع ، فإنها لا تكاد 
    تجاوز تسعاً بإذن الله 
    " .
    قلت : وهو ينفع فعله في فصل الصيف في البلاد الحارة على الشرائط 
    التي تقدمت ، فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة 
    الشمس ، ووفور القوى في ذلك الوقت لما أفادها النوم ، والسكون ، 
    وبرد الهواء ، فتجتمع فيه قوة القوى ، وقوة الدواء ، وهو الماء 
    البارد
    
    
    على 
    حرارة الحمى العرضية ، أو الغب الخالصة ، أعني التي لا ورم معها ، 
    ولا شئ من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة ، فيطفئها بإذن الله ، 
    لا سيما في أحد الأيام المذكورة في الحديث ، وهي الأيام التي يقع 
    فيها بحران الأمراض الحادة كثيراً ، سيما في البلاد المذكورة لرقة 
    أخلاط سكانها ، وسرعة انفعالهم عن الدواء النافع .
    ***
    فصل
في 
    هديه في علاج استطلاق البطن
    في  الصحيحين  : من حديث أبي المتوكل ، عن أبي سعيد الخدري ، " أن 
    رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن أخي يشتكي بطنه : 
    وفي رواية : استطلق بطنه ، فقال :  اسقه عسلاً  ، فذهب ثم رجع ، 
    فقال : قد سقيته ، فلم يغن عنه شيئاً. وفي لفظ : فلم يزده إلا 
    استطلاقاً مرتين أو ثلاثاً ، كل ذلك يقول له :  اسقه عسلاً  ، فقال 
    له في الثالثة أو الرابعة : صدق الله ، وكذب بطن أخيك 
    " .
    وفي  صحيح مسلم  في لفظ له : " إن أخي عرب بطنه " ، أي فسد هضمه ، 
    واعتلت معدته ، والاسم العرب بفتح الراء ، والذرب أيضاً 
    .
    والعسل فيه منافع عظيمة ، فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق 
    والأمعاء وغيرها ، محلل للرطوبات أكلاً وطلاءً ، نافع للمشايخ 
    وأصحاب البلغم ، ومن كان مزاجه بارداً رطباً ، وهو مغذ ملين 
    للطبيعة ، حافظ لقوى المعاجين ولما استودع فيه ، مذهب لكيفيات 
    الأدوية الكريهة ، منق للكبد والصدر ، مدر للبول ، موافق للسعال 
    الكائن عن البلغم ، وإذا شرب حاراً بدهن الورد ، نفع من نهش
    الهوام وشرب الأفيون ، وإن شرب وحده ممزوجاً بماء نفع من عضة الكلب 
    الكلب ، وأكل الفطر القتال ، وإذا جعل فيه اللحم الطري ، حفظ 
    طراوته ثلاثة أشهر ، وكذلك إن جعل فيه القثاء ، والخيار ، والقرع ، 
    والباذنجان ، ويحفظ كثيراً من الفاكهة ستة أشهر ، ويحفظ جثة الموتى 
    ، ويسمى الحافظ الأمين . وإذا لطخ به البدن المقمل والشعر ، قتل 
    قمله وصئبانه ، وطول الشعر ، وحسنه ، ونعمه ، وإن اكتحل به ، جلا 
    ظلمة البصر ، وإن استن به ، بيض الأسنان وصقلها ، وحفظ صحتها ، 
    وصحة اللثة ، ويفتح أفواه العروق ، ويدر الطمث ، ولعقه على الريق 
    يذهب البلغم ، ويغسل خمل المعدة ، ويدفع الفضلات عنها ، ويسخنها 
    تسخيناً معتدلاً ، ويفتح سددها ، ويفعل ذلك بالكبد والكلى والمثانة 
    ، وهو أقل ضرراً لسدد الكبد والطحال من كل حلو 
    .
    وهو مع هذا كله مأمون الغائلة ، قليل المضار ، مضر بالعرض 
    للصفراويين ، ودفعها بالخل ونحوه ، فيعود حينئذ نافعاً له جداً 
    .
    وهو غذاء مع الأغذية ، ودواء مع الأدوية ، وشراب مع الأشربة ، وحلو 
    مع الحلوى ، وطلاء مع الأطلية ، ومفرح مع المفرحات ، فما خلق لنا 
    شئ فى في معناه أفضل منه ، ولا مثله ، ولا قريباً منه ، ولم يكن 
    معول القدماء إلا عليه ، وأكثر كتب القدماء لا ذكر فيها للسكر 
    البتة  
    ،  
    ولا 
    يعرفونه ، فإنه حديث العهد حدث قريباً ، وكان النبي صلى الله عليه 
    وسلم يشربه بالماء على الريق ، وفي ذلك سر بديع في حفظ الصحة لا 
    يدركه إلا الفطن الفاضل ، وسنذكر ذلك إن شاء الله عند ذكر هديه في 
    حفظ الصحة 
    .
    وفي  سنن ابن ماجه  مرفوعاً من حديث أبي هريرة " من لعق العسل ثلاث 
    غدوات كل شهر ، لم يصبه عظيم من البلاء " ، وفي أثر آخر : " عليكم 
    بالشفاءين : العسل والقرآن " فجمع بين الطب البشري والإلهي ، وبين 
    طب الأبدان ، وطب الأرواح ، وبين الدواء الأرضي والدواء السمائي .
    إذا عرف هذا ، فهذا الذي وصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل ، 
    كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته عن امتلاء ، فأمره بشرب العسل 
    لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء ، فإن العسل فيه 
    جلاء ، ودفع للفضول ، وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة ، تمنع 
    استقرار الغذاء فيها للزوجتها ، فإن المعدة لها خمل كخمل القطيفة ، 
    فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة ، أفسدتها وأفسدت الغذاء ، فدواؤها 
    بما يجلوها من تلك الأخلاط ، والعسل جلاء ، والعسل من أحسن ما عولج 
    به هذا الداء ، لا سيما إن مزج بالماء الحار 
    .
    وفي تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع ، وهو أن الدواء يجب أن يكون 
    له مقدار ، وكمية بحسب حال الداء ، إن قصر عنه ، لم يزله بالكلية ، 
    وإن جاوزه . أوهى القوى ، فأحدث ضرراً آخر ، فلما أمره أن يسقيه 
    العسل ، سقاه مقداراً لا يفي بمقاومة الداء ، ولا يبلغ الغرض ، 
    فلما أخبره ، علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة ، فلما تكرر 
    ترداده إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أكد عليه المعاودة ليصل إلى 
    المقدار المقاوم للداء ، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء ، برأ 
    ، بإذن الله ، واعتبار مقادير الأدوية ، وكيفياتها ، ومقدار قوة 
    المرض مرض من أكبر قواعد الطب 
    .
    وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " صدق الله وكذب بطن أخيك " ، إشارة 
    إلى تحقيق نفع هذا الدواء ، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في 
    نفسه ، ولكن لكذب البطن ، و كثرة المادة الفاسدة فيه ، فأمره 
    بتكرار الدواء لكثرة المادة
    
    
    .
    وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء ، فإن طب النبي صلى الله 
    عليه وسلم متيقن قطعي إلهي ، صادر عن الوحي ، ومشكاة النبوة ، 
    وكمال العقل . وطب غيره ، أكثره حدس وظنون ، وتجارب ، ولا ينكر عدم 
    انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة ، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه 
    بالقبول ، واعتقاد الشفاء به ، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان 
    ، فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور - إن لم يتلق هذا التلقي 
    - لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها ، بل لا يزيد المنافقين إلا 
    رجساً إلى رجسهم ، ومرضاً إلى مرضهم ، وأين يقع طب الأبدان منه ، 
    فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطبية ، كما أن شفاء القرآن لا 
    يناسب إلا الأرواح الطبية والقلوب الحية ، فإعراض الناس عن طب 
    النبوة كإعراضهم عن طب الإستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع ، 
    وليس ذلك لقصور فى الدواء ، ولكن لخبث الطبيعة ، وفساد المحل ، 
    وعدم قبوله ، والله الموفق .
    ***
    فصل
في 
    هديه في داء الإستسقاء وعلاجه
    في  الصحيحين  : من حديث أنس بن مالك ، قال :  قدم رهط من عرينة 
    وعكل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فاجتووا المدينة ، فشكوا ذلك 
    إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لو خرجتم إلى إبل الصدقة 
    فشربتم من أبوالها وألبانها ، ففعلوا ، فلما صحوا ، عمدوا إلى 
    الرعاة
    
    
    
    فقتلوهم ، واستاقوا الإبل ، وحاربو الله ورسوله ، فبعث رسول الله 
    صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فأخذوا ، فقطع أيديهم ، وأرجلهم ، 
    وسمل أعينهم ، وألقاهم في الشمس حتى ماتوا 
    " .
    والدليل على أن هذا المرض كان الإستسقاء ، ما رواه مسلم في  صحيحه  
    في هذا الحديث أنهم قالوا : إنا اجتوينا المدينة ، فعظمت بطوننا ، 
    وارتهشت أعضاؤنا ، وذكر تمام الحديث 
    . . .
    والجوى : داء من أدواء الجوف - والإستسقاء : مرض مادي سببه مادة 
    غريبة باردة تتخلل الأعضاء فتربو لها إما الأعضاء الظاهرة كلها ، 
    وإما المواضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والأخلاط 
    ، وأقسامه ثلاثة : لحمي ، وهو أصعبها . وزقي ، وطبلي 
    .
    ولما كانت الأدوية المحتاج إليها فى علاجه هي الأدوية الجالبة التي 
    فيها إطلاق معتدل ، وإدرار بحسب الحاجة ، وهذه الأمور موجودة في 
    أبوال الإبل وألبانها ، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بشربها ، 
    فإن في لبن اللقاح جلاءً وتلييناً ، وإدراراً وتلطيفاً، وتفتيحاً 
    للسدد ، إذ كان أكثر رعيها الشيح ، والقيصوم ، والبابونج ، 
    والأقحوان ، والإذخر ، وغير ذلك من الأدوية النافعة للإستسقاء 
    .
    وهذا المرض لا يكون إلا مع آفة في الكبد خاصة ، أو مع مشاركة ، 
    وأكثرها عن السدد فيها ، ولبن اللقاح العربية نافع من  السدد ، لما 
    فيه من التفتيح ، والمنافع المذكورة 
    .
    قال الرازي : لبن اللقاح يشفي أوجاع الكبد ، وفساد المزاج ، وقال 
    الإسرائيلي : لبن اللقاح أرق الألبان ، وأكثرها مائية وحدة ، 
    وأقلها غذاء ، فلذلك صار أقواها على تلطيف الفضول ، وإطلاق البطن ، 
    وتفتيح السدد ، ويدل على ذلك ملوحته اليسيرة التي فيه لإفراط حرارة 
    حيوانية بالطبع ، ولذلك صار أخص الألبان بتطرية الكبد ، وتفتيح 
    سددها ، وتحليل صلابة الطحال إذا كان حديثاً ، والنفع من الإستسقاء 
    خاصة إذا استعمل لحرارته التي يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل ، 
    وهو حار كما يخرج من الحيوان ، فإن ذلك مما يزيد في ملوحته ، 
    وتقطيعه الفضول ، وإطلاقه البطن ، فإن تعذر انحداره وإطلاقه البطن 
    ، وجب أن يطلق بدواء مسهل 
    .
    قال صاحب  القانون  : ولا يلتفت إلى ما يقال : من أن طبيعة اللبن 
    مضادة لعلاج الإستسقاء . قال : واعلم أن لبن النوق دواء نافع لما 
    فيه من الجلاء برفق ، وما فيه من خاصية ، وأن هذا اللبن شديد 
    المنفعة ، فلو أن إنساناً أقام عليه بدل الماء والطعام شفي به ، 
    وقد جرب ذلك في قوم دفعوا إلى بلاد العرب ، فقادتهم الضرورة إلى 
    ذلك ، فعوفوا . وأنفع الأبوال : بول الجمل الأعرابي ، وهو النجيب ، 
    انتهى 
    .
    وفي القصة : دليل على التداوي والتطبب ، وعلى طهارة بول مأكول 
    اللحم ، فإن التداوي بالمحرمات غير جائز ، ولم يؤمروا مع قرب عهدهم 
    بالإسلام بغسل أفواههم ، وما أصابته ثيابهم من أبوالها للصلاة ، 
    وتأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة 
    .
    وعلى مقاتلة الجاني بمثل ما فعل ، فإن هؤلاء قتلوا الراعي ، وسملوا 
    عينيه ، ثبت ذلك في  صحيح مسلم  
    .
    وعلى قتل الجماعة ، وأخذ أطرافهم بالواحد 
    .
    وعلى أنه إذا اجتمع في حق الجاني حد وقصاص استوفيا معاً ، فإن 
    النبي صلى الله عليه وسلم قطع أيديهم وأرجلهم حداً لله على حرابهم 
    ، وقتلهم لقتلهم الراعي 
    .
    وعلى أن المحارب إذا أخذ المال ، وقتل ، قطعت يده ورجله في مقام 
    واحد وقتل 
    .
    وعلى أن الجنايات إذا تعددت ، تغلظت عقوباتها ، فإن هؤلاء ارتدوا 
    بعد إسلامهم ، وقتلوا النفس ، ومثلوا بالمقتول ، وأخذوا المال ، 
    وجاهروا بالمحاربة 
    .
    وعلى أن حكم ردء المحاربين حكم مباشرهم ، فإنه من المعلوم أن كل 
    واحد منهم لم يباشر القتل بنفسه ، ولا سأل النبي صلى الله عليه 
    وسلم عن ذلك 
    .
    وعلى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حداً ، فلا يسقطه العفو ، ولا 
    تعتبر فيه المكافأة ، وهذا مذهب أهل المدينة ، وأحد الوجهين فى 
    مذهب أحمد ، اختاره شيخنا ، وأفتى به .
    ***
فصل
    في  صحيح البخاري  : عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى 
    الله عليه وسلم ، قال : " الشفاء في ثلاث : شربة عسل ، وشرطة محجم 
    ، وكية نار ، وأنا أنهى أمتي عن الكي 
    " .
    قال أبو عبد الله المازري : الأمراض الإمتلائية : إما أن تكون 
    دموية ، أو صفراوية ، أو بلغمية ، أو سوداوية . فإن كانت دموية ، 
    فشفاؤها إخراج الدم ، وإن كانت من الأقسام الثلاثة الباقية ، 
    فشفاؤها بالإسهال الذي يليق بكل خلط منها ، وكأنه صلى الله عليه 
    وسلم بالعسل على المسهلات ، وبالحجامة على الفصد ، وقد قال بعض 
    الناس : إن الفصد يدخل في قوله :  شرطة محجم  . فإذا أعيا الدواء ، 
    فآخر الطب الكي ، فذكره صلى الله عليه وسلم في الأدوية ، لأنه 
    يستعمل عند غلبة الطباع لقوى الأدوية ، وحيث لا ينفع الدواء 
    المشروب . وقوله :  وأنا أنهى أمتي عن الكي  ، وفي الحديث الآخر :  
    وما أحب أن أكتوي  ، إشارة إلى أن يؤخر العلاج به حتى تدفع الضرورة 
    إليه ، ولا يعجل التداوي به لما فيه من استعجال الألم الشديد في 
    دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي ، انتهى كلامه 
    .
    وقال بعض الأطباء : الأمراض المزاجية : إما أن تكون بمادة ، أو 
    بغير مادة ، والمادية منها : إما حارة ، أو باردة ، أو رطبة ، أو 
    يابسة ، أو ما تركب منها ، وهذه الكيفيات الأربع ، منها كيفيتان 
    فاعلتان : وهما الحرارة والبرودة ، وكيفيتان منفعلتان ، وهما 
    الرطوبة واليبوسة ، ويلزم من غلبة إحدى الكيفيتين الفاعلتين 
    استصحاب كيفية منفعلة معها ، وكذلك كان لكل واحد من الأخلاط 
    الموجودة في البدن ، وسائر المركبات كيفيتان : فاعلة ومنفعلة
    
    .
    فحصل من ذلك أن أصل الأمراض المزاجية هي التابعة لأقوى كيفيات 
    الأخلاط التي هي الحرارة والبرودة ، فجاء كلام النبوة في أصل 
    معالجة الأمراض التي هي الحارة والباردة على طريق التمثيل ، فإن 
    كان المرض حاراً ، عالجناه بإخراج الدم ، بالفصد كان أو بالحجامة ، 
    لأن في ذلك
    
    
    
    استفراغاً للمادة ، وتبريداً للمزاج . وإن كان بارداً عالجناه 
    بالتسخين ، وذلك موجود في العسل ، فإن كان يحتاج مع ذلك إلى 
    استفراغ المادة الباردة ، فالعسل أيضاً يفعل في ذلك لما فيه من 
    الإنضاج ، والتقطيع ، والتلطيف، والجلاء، والتليين ، فيحصل بذلك 
    استفراغ تلك المادة برفق وأمن من نكاية المسهلات القوية 
    .
    وأما الكي : فلأن كل واحد من الأمراض المادية ، إما أن يكون حاداً 
    فيكون سريع الإفضاء لأحد الطرفين ، فلا يحتاج إليه فيه ، وإما أن 
    يكون مزمناً ، وأفضل علاجه بعد الإستفراغ الكي في الأعضاء التي 
    يجوز فيها الكي ، لأنه لا يكون مزمناً إلا عن مادة باردة غليظة قد 
    رسخت
    
    
    في 
    العضو ، وأفسدت مزاجه ، وأحالت جميع ما يصل إليه إلى مشابهة جوهرها 
    ، فيشتعل في ذلك العضو، فيستخرج بالكي تلك المادة من ذلك المكان 
    الذي هو فيه بإفناء الجزء الناري الموجود بالكي لتلك المادة 
    .
    فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أخذ معالجة الأمراض المادية جميعها ، 
    كما استنبطنا معالجة الأمراض الساذجة من قوله صلى الله عليه وسلم : 
    " إن شدة الحمى من فيح جهنم ، فأبردوها بالماء " .
    ***
    فصل
    وأما الحجامة ، ففي  سنن ابن ماجه  من حديث جبارة بن المغلس ، - 
    وهو ضعيف - عن كثير بن سليم ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قال 
    رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما مررت ليلة أسري بي بملإ إلا 
    قالوا : يا محمد ! مر أمتك بالحجامة 
    " .
    وروى الترمذي في  جامعه  من حديث ابن عباس هذا الحديث : وقال فيه : 
    "عليك بالحجامة يا محمد 
    " .
    وفي  الصحيحين  : من حديث طاووس ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله 
    عليه وسلم : " احتجم وأعطى الحجام أجره 
    " .
    وفي  الصحيحين  أيضاً ، عن حميد الطويل ، عن أنس ، أن رسول الله 
    صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة ، فأمر له بصاعين من طعام ، وكلم 
    مواليه ، فخففوا عنه من ضريبته ، وقال : " خير ما تداويتم به 
    الحجامة 
    " .
    وفي  جامع الترمذي  عن عباد بن منصور ، قال : سمعت عكرمة يقول : 
    كان لابن عباس غلمة ثلاثة حجامون ، فكان اثنان يغلان عليه ، وعلى 
    أهله ، وواحد لحجمه ، وحجم أهله . قال : وقال ابن عباس : قال نبي 
    الله صلى الله عليه وسلم : " نعم العبد الحجام يذهب بالدم ، ويخف 
    الصلب 
    ،  
    ويجلو 
    البصر " ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عرج به ، ما 
    مر على ملإ من الملائكه إلا قالوا : " عليك بالحجامة " ، وقال : " 
    إن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة ، ويوم تسع عشرة ، ويوم إحدى 
    وعشرين " ، وقال : " إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود
    
    
    
    والحجامة والمشي " ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لد فقال:  " 
    من لدني  ؟ فكلهم أمسكوا ، فقال :  لا يبقى أحد في البيت إلا لد 
    إلا العباس " . قال : هذا حديث غريب ، ورواه ابن ماجه .
    ***
    فصل
    وأما منافع الحجامة : فإنها تنقي سطح البدن أكثر من الفصد ، والفصد 
    لأعماق البدن أفضل ، والحجامة تستخرج الدم من نواحي الجلد 
    .
    قلت : والتحقيق في أمرها وأمر الفصد ، أنهما يختلفان باختلاف 
    الزمان ، والمكان ، والأسنان ، والأمزجة ، فالبلاد الحارة ، 
    والأزمنة الحارة ، والأمزجة الحارة التي دم أصحابها في غاية النضج 
    الحجامة فيها أنفع من الفصد بكثير ، فإن الدم ينضج ويرق ويخرج إلى 
    سطح الجسد الداخل ، فتخرج الحجامة ما لا يخرجه الفصد ، ولذلك كانت 
    أنفع للصبيان من الفصد ، ولمن لا يقوى على الفصد ، وقد نص الأطباء 
    على أن البلاد الحارة الحجامة فيها أنفع وأفضل من الفصد ، وتستحب 
    في وسط الشهر ، وبعد وسطه . وبالجملة ، في الربع الثالث من أرباع 
    الشهر ، لأن الدم في أول الشهر لم يكن بعد قد هاج وتبيغ ، وفي آخره 
    يكون قد سكن . وأما في وسطه وبعيده ، فيكون في نهاية التزيد 
    .
    قال صاحب  القانون  : ويؤمر باستعمال الحجامة لا في أول الشهر ، 
    لأن الأخلاط لا تكون قد تحركت وهاجت ، ولا في آخره لأنها تكون قد 
    نقصت ، بل في وسط الشهر حين تكون الأخلاط هائجة بالغة في تزايدها 
    لتزيد النور في جرم القمر . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، 
    أنه
    
    
    قال : 
    " خير ما تداويتم به الحجامة والفصد " . وفي حديث : " خير الدواء 
    الحجامة والفصد " . انتهى 
    .
    وقوله صلى الله عليه وسلم : " خير ما تداويتم به الحجامة " إشارة 
    إلى أهل الحجاز ، والبلاد الحارة ، لأن دماءهم رقيقة ، وهي أميل 
    الى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح الجسد ، 
    واجتماعها في نواحي الجلد ، ولأن مسام أبدانهم واسعة ، وقواهم 
    متخلخلة ، ففي
    
    
    الفصد 
    لهم خطر ، والحجامة تفرق اتصالي إرادي يتبعه استفراغ كلي من العروق 
    ، وخاصة العروق التي لا تفصد كثيراً ، ولفصد كل واحد منها نفع خاص 
    ، ففصد الباسليق : ينفع من حرارة الكبد والطحال والأورام الكائنة 
    فيهما من الدم ، وينفع من أورام الرئة ، وينفع من الشوصة وذات 
    الجنب وجميع الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك 
    .
    وفصد الأكحل : ينفع من الإمتلاء العارض في جميع البدن إذا كان 
    دموياً ، وكذلك إذا كان الدم قد فسد في جميع البدن 
    .
    وفصد القيفال : ينفع من العلل العارضة في الرأس والرقبة من كثرة 
    الدم أو فساده 
    .
    وفصد الودجين : ينفع من وجع الطحال ، والربو ، والبهر ، ووجع 
    الجبين 
    .
    والحجامة على الكاهل : تنفع من وجع المنكب والحلق 
    .
    والحجامة على الأخدعين ، تنفع من أمراض الرأس ، وأجزائه ، كالوجه ، 
    والأسنان ، والأذنين ، والعينين ، والأنف ، والحلق إذا كان حدوث 
    ذلك عن كثرة الدم أو فساده ، أو عنهما جميعاً . قال أنس رضي الله 
    تعالى عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين 
    والكاهل 
    .
    وفي  الصحيحين  عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم 
    ثلاثاً : واحدة على كاهله ، واثنتين على الأخدعين 
    .
    وفي الصحيح : عنه ، أنه احتجم وهو محرم في رأسه لصداع كان به 
    .
    وفي  سنن ابن ماجه  عن علي ، نزل جبريل على النبي صلى الله عليه 
    وسلم بحجامة الأخدعين والكاهل 
    .
    وفي  سنن أبي داود  من حديث جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : 
    " احتجم في وركه من وثء كان به " .
    ***
فصل
    وذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي حديثاً مرفوعاً " عليكم 
    بالحجامة في جوزة القمحدوة ، فإنها تشفي من خمسة أدواء " ، ذكر 
    منها الجذام 
    .
    وفي حديث آخر : " عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة ، فإنها شفاء من 
    اثنين وسبعين داء 
    " .
    فطائفة منهم استحسنته وقالت : إنها تنفع من جحظ العين ، والنتوء 
    العارض فيها ، وكثير من أمراضها ، ومن ثقل الحاجبين والجفن ، وتنفع 
    من جربه . وروي أن أحمد بن حنبل احتاج إليها ، فاحتجم في جانبي 
    قفاه ، ولم يحتجم في النقرة ، وممن كرهها صاحب  القانون  وقال : 
    إنها تورث النسيان حقاً ، كما قال سيدنا ومولانا  وصاحب شريعتنا 
    محمد صلى الله عليه وسلم ، ، فإن مؤخر الدماغ موضع الحفط ، 
    والحجامة تذهبه ، انتهى كلامه 
    .
    ورد عليه آخرون ، وقالوا : الحديث لا يثبت ، وإن ثبث فالحجامة ، 
    إنما تضعف مؤخر الدماغ إذا استعملت لغير ضرورة ، فأما إذا استعملت 
    لغلبة الدم عليه ، فإنها نافعة له طباً وشرعاً ، فقد ثبت عن النبي 
    صلى الله عليه وسلم أنه احتجم في عدة أماكن من قفاه بحسب ما اقتضاه 
    الحال في ذلك ، واحتجم في غير القفا بحسب ما دعت إليه حاجته .
    ***
    فصل
    والحجامة تحت الذقن 
    تنفع من وجع الأسنان والوجه والحلقوم ، إذا استعملت في وقتها ، 
    وتنقي الرأس والفكين ، والحجامة على ظهر القدم تنوب عن فصد الصافن 
    ، وهو عرق عظيم عند الكعب ، وتنفع من قروح الفخذين والساقين ، 
    وانقطاع الطمث ، والحكة العارضة في الإنثيين ، والحجامة في أسفل 
    الصدر نافعة من دماميل الفخذ ، وجربه وبثوره ، ومن النقرس 
    والبواسير ، والفيل وحكة الظهر .
    ***
فصل
    في هديه في أوقات 
    الحجامة
    روى الترمذي في  جامعه  : من حديث ابن عباس يرفعه : " إن خير ما 
    تحتجمون في يوم سابع عشرة ، أو تاسع عشرة ، ويوم إحدى وعشرين 
    " .
    وفيه "عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين 
    والكاهل ، وكان يحتجم لسبعة عشر ، وتسعة عشر ، وفي إحدى وعشرين 
    " .
    وفي  سنن ابن ماجه  عن أنس مرفوعاً : " من أراد الحجامة فليتحر 
    سبعة عشر ، أو تسعة عشر ، أو إحدى وعشرين ، لا يتبيغ بأحدكم الدم 
    فيقتله 
    " .
    وفي  سنن أبي داود  من حديث أبي هريرة مرفوعاً : " من احتجم لسبع 
    عشرة ، أو تسع عشرة ، أو إحدى وعشرين ، كانت شفاء من كل داء " ، 
    وهذا معناه من كل داء سببه غلبة الدم 
    .
    وهذه الأحاديث موافقة لما أجمع عليه الأطباء ، أن الحجامة في النصف 
    الثاني ، وما يليه من الربع الثالث من أرباعه أنفع من أوله وآخره ، 
    وإذا استعملت عند الحاجة إليها نفعت أي وقت كان من أول الشهر وآخره 
    .
    قال الخلال : أخبرني عصمة بن عصام ، قال : حدثنا حنبل ، قال : كان 
    أبو عبد الله أحمد بن حنبل يحتجم أي وقت هاج به الدم ، وأي ساعة 
    كانت 
    .
    وقال صاحب  القانون  : أوقاتها في النهار : الساعة الثانية أو 
    الثالثة ، ويجب توقيها بعد الحمام إلا فيمن دمه غليط ، فيجب أن 
    يستحم ، ثم يستجم ساعة ، ثم يحتجم ، انتهى 
    .
    وتكره عندهم الحجامة على الشبع ، فإنها ربما أورثت سدداً وأمراضاً 
    رديئة ، لا سيما إذا كان الغذاء رديئاً غليظاً . وفي أثر : " 
    الحجامة على الريق دواء ، وعلى الشبع داء ، وفي سبعة عشر من الشهر 
    شفاء 
    " .
    واختيار هذه الأوقات للحجامة ، فيما إذا كانت على سبيل الإحتياط 
    والتحرز من الأذى ، وحفظاً للصحة . وأما في مداواة الأمراض ، 
    فحيثما وجد الإحتياح إليها وجب استعمالها . وفي قوله : " لا يتبيغ 
    بأحدكم الدم فيقتله " دلالة على ذلك ، يعني لئلا يتبيغ ، فحذف حرف 
    الجر مع 
    (  
    أن ) 
    ، ثم حذفت ( أن ) . والتبيغ : الهيج ، وهو مقلوب البغي ، وهو 
    بمعناه ، فإنه بغي الدم وهيجانه . وقد تقدم أن الإمام أحمد كان 
    يحتجم أي وقت احتاج من الشهر .
    ***
    فصل
    وأما اختيار أيام الأسبوع للحجامة ، فقال الخلال في  جامعه  : 
    أخبرنا حرب بن إسماعيل ، قال : قلت لأحمد : تكره الحجامة في شء من 
    الأيام ؟ قال : قد جاء في الأربعاء والسبت 
    .
    وفيه : عن الحسين بن حسان ، أنه سأل أبا عبد الله عن الحجامة : أي 
    يوم تكره ؟ فقال : في يوم السبت ، ويوم الأربعاء ، ويقولون : يوم 
    الجمعة 
    .
    وروى الخلال ، عن أبي سلمة وأبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة 
    مرفوعاً : " من احتجم يوم الأربعاء أو يوم السبت ، فأصابه بياض أو 
    برص ، فلا يلومن إلا نفسه 
    " .
    وقال الخلال : أخبرنا محمد بن علي بن جعفر ، أن يعقوب بن بختان 
    حدثهم ، قال : سئل أحمد عن النورة والحجامة يوم السبت ويوم 
    الأربعاء ؟ فكرهها . وقال : بلغني عن رجل أنه تنور ، واحتجم يعني 
    يوم الأربعاء ، فأصابه البرص . قلت له : كأنه تهاون بالحديث ؟ قال 
    : نعم 
    .
    وفي كتاب  الأفراد  للدارقطني ، من حديث نافع قال : قال لي عبد 
    الله بن عمر : تبيغ بي الدم ، فابغ لي حجاماً ، ولا يكن صبياً ولا 
    شيخاً كببراً ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " 
    الحجامة تزيد الحافظ حفظاً ، والعاقل عقلاً ، فاحتجموا على اسم 
    الله تعالى ، ولا تحتجموا الخميس ، والجمعة ، والسبت ، والأحد ، 
    واحتجموا الإثنين ، وما كان من جذام ولا برص ، إلا نزل يوم 
    الأربعاء " . قال الدارقطني : تفرد به زياد بن يحيى ، وقد رواه 
    أيوب عن نافع ، وقال فيه : " واحتجموا يوم الإثنين والثلاثاء ، ولا 
    تحتجموا يوم الأربعاء 
    " .
    وقد روى أبو داود في  سننه  من حديث أبي بكرة ، أنه كان يكره 
    الحجامة يوم الثلاثاء ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم 
    قال : " يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ فيها الدم " .
    ***
    فصل
    وفي ضمن هذه الأحاديث المتقدمة استحباب التداوي ، واستحباب الحجامة 
    ، وأنها تكون في الموضع الذي يقتضيه الحال ، وجواز احتجام المحرم ، 
    وإن آل إلى قطع شئ من الشعر ، فإن ذلك جائز . وفي وجوب الفدية عليه 
    نظر ، ولا يقوى الوجوب ، وجواز احتجام الصائم ، فإن في  صحيح 
    البخاري  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احتجم وهو صائم " . 
    ولكن هل يفطر بذلك ، أم لا ؟ مسألة أخرى ، الصواب : الفطر بالحجامة 
    ، لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير معارض ، وأصح ما 
    يعارض به حديث حجامته وهو صائم ، ولكن لا يدل على عدم الفطر إلا 
    بعد أربعة أمور . أحدها : أن الصوم كان فرضاً . الثاني : أنه كان 
    مقيماً . الثالث : أنه لم يكن به مرض احتاج معه إلى الحجامة . 
    الرابع : أن هذا الحديث متأخر عن قوله : " أفطر الحاجم والمحجوم 
    " .
    فإذا ثبتت هذه المقدمات الأربع ، أمكن الإستدلال بفعله صلى الله 
    عليه وسلم على بقاء الصوم مع الحجامة ، وإلا فما المانع أن يكون 
    الصوم نفلاً يجوز الخروج منه بالحجامة وغيرها ، أو من رمضان لكنه 
    في السفر ، أو من رمضان في الحضر ، لكن دعت الحاجة إليها كما تدعو 
    حاجة من به مرض إلى الفطر ، أو يكون فرضاً من رمضان في الحضر من 
    غير حاجة إليها ، لكنه مبقى على الأصل . وقوله : " أفطر الحاجم 
    والمحجوم " ، ناقل ومتأخر ، فيتعين المصير إليه ، ولا سبيل إلى 
    إثبات واحدة من هذه المقدمات الأربع ، فكيف بإثباتها كلها 
    .
    وفيها دليل على استئجار الطبيب وغيره من غير عقد إجازة ، بل يعطيه 
    أجرة المثل ، أو ما يرضيه 
    .
    وفيها دليل على جواز التكسب بصناعة الحجامة ، وإن كان لا يطيب للحر 
    أكل أجرته من غير تحريم عليه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه 
    أجره ، ولم يمنعه من أكله ، وتسميته إياه خبيثاً كتسميته للثوم 
    والبصل خبيثين ، ولم يلزم من ذلك تحريمهما 
    .
    وفيها دليل على جواز ضرب الرجل الخراج على عبده كل يوم شيئاً 
    معلوماً بقدر طاقته ، وأن العبد أن يتصرف فيما زاد على  خراجه ، 
    ولو منع من التصرف ، لكان كسبه كله خراجاً ولم يكن لتقديره فائدة ، 
    بل ما زاد على خراجه ، فهو تمليك من سيده له يتصرف فيه كما أراد ، 
    والله أعلم .
    ***
    فصل
في 
    هديه صلى الله عليه وسلم في قطع العروق والكي
    ثبت في  الصحيح  من حديث جابر بن عبد الله ، أن النبي صلى الله 
    عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيباً ، فقطع له عرقاً وكواه عليه 
    .
    ولما رمي سعد بن معاذ في أكحله حسمه النبي صلى الله عليه وسلم ثم 
    ورمت ، فحسمه الثانية . والحسم : هو الكي 
    .
    وفي طريق آخر : أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ في 
    أكحله بمشقص ، ثم حسمه سعد بن معاذ أو غيره من أصحابه 
    .
    وفي لفظ آخر : أن رجلاً من الأنصار رمي في أكحله بمشقص ، فأمر 
    النبي صلى الله عليه وسلم به فكوي 
    .
    وقال أبو عبيد : وقد أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل نعت له 
    الكي ، فقال : " اكووه وارضفوه " . قال أبو عبيد : الرضف: الحجارة 
    تسخن ، ثم يكمد بها 
    .
    وقال الفضل بن دكين : حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن 
    النبي صلى الله عليه وسلم كواه في أكحله 
    .
    وفي  صحيح البخاري  من حديث أنس ، أنه كوي من ذات الجنب والنبى صلى 
    الله عليه وسلم حي 
    .
    وفي الترمذي ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : " كوى أسعد 
    بن زرارة من الشوكة " ، وقد تقدم الحديث المتفق عليه وفيه " وما 
    أحب أن أكتوي " وفي لفظ آخر : " وأنا أنهى أمتي عن الكي 
    " .
    وفي  جامع الترمذي  وغيره عن عمران بن حصين ، أن النبي صلى الله 
    عليه وسلم نهى عن الكي قال : فابتلينا فاكتوينا فما أفلحنا ، ولا 
    أنجحنا . وفي لفظ : نهينا عن الكي وقال : فما أفلحن ولا أنجحن 
    .
    قال الخطابي : إنما كوى سعداً ليرقأ الدم من جرحه ، وخاف عليه أن 
    ينزف فيهلك . والكي مستعمل في هذا الباب ، كما يكوى من تقطع يده أو 
    رجله 
    .
    وأما النهي عن الكي ، فهو أن يكتوي طلباً للشفاء ، وكانوا يعتقدون 
    أنه متى لم يكتو ، هلك ، فنهاهم عنه لأجل هذه النية 
    .
    وقيل : إنما نهى عنه عمران بن حصين خاصة ، لأنه كان به ناصور ، 
    وكان موضعه خطراً ، فنهاه عن كيه ، فيشبه أن يكون النهي منصرفاً 
    إلى الموضع المخوف منه ، والله أعلم 
    .
    وقال ابن قتيبة : الكي جنسان : كي الصحيح لئلا يعتل ، فهذا الذي 
    قيل فيه : لم يتوكل من اكتوى ، لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه 
    .
    والثاني : كي الجرح إذا نغل ، والعضو إذا قطع ، ففي هذا الشفاء 
    .
    وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجع ، ويجوز أن لا ينجع ، 
    فإنه إلى الكراهة أقرب . انتهى 
    .
    وثبت في  الصحيح  في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير 
    حساب "أنهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون ، وعلى ربهم 
    يتوكلون 
    ".
    فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع ، أحدها : فعله ، والثاني : عدم 
    محبته له ، والثالث : الثناء على من تركه ، والرابع : النهي عنه ، 
    ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى ، فإن فعله يدل على جوازه ، وعدم 
    محبته له لا يدل على المنع منه . وأما الثناء على تاركه ، فيدل على 
    أن تركه أولى وأفضل . وأما النهي عنه ، فعلى سبيل الإختيار 
    والكراهة ، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه ، بل يفعل خوفاً من 
    حدوث الداء ، والله أعلم .
    ***
فصل
    أخرجا في  الصحيحين  من حديث عطاء بن أبي رباح ، قال : قال ابن 
    عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى . قال : هذه 
    المرأة السوداء ، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع ، 
    وإني أتكشف ، فادع الله لي ، فقال : " إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن 
    شئت دعوت الله لك أن يعافيك  ، فقالت : أصبر . قالت : فإني أتكشف ، 
    فادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها 
    " .
    قلت : الصرع صرعان : صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية ، وصرع من 
    الأخلاط الرديئة . والثاني : هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه 
    وعلاجه 
    .
    وأما صرع الأرواح ، فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ، ولا يدفعونه ، 
    ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك 
    الأرواح الشريرة الخبيثة ، فتدافع آثارها ، وتعارض أفعالها وتبطلها 
    ، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه ، فذكر بعض علاج الصرع ، وقال 
    :
    
    
    هذا 
    إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة . وأما الصرع الذي 
    يكون من الأرواح ، فلا ينفع فيه هذا العلاج 
    .
    وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ، ومن يعتقد بالزندقة فضيلة ، 
    فأولئك ينكرون صرع الأرواح ، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع 
    ، وليس معهم إلا الجهل ، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك 
    ، والحس والوجود شاهد به ، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط ، هو 
    صادق في بعض أقسامه لا في كلها 
    .
    وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع : المرض الإلهي ، وقالوا : 
    إنه من الأرواح ، وأما جالينوس وغيره ، فتأولوا عليهم هذه التسمية 
    ، وقالوا : إنما سموه بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس 
    ، فنضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ.
    وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها ، وتأثيراتها 
    ، وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده 
    .
    ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف 
    عقولهم 
    .
    وعلاج هذا النوع يكون بأمرين : أمر من جهة المصروع ، وأمر من جهة 
    المعالج ، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه ، وصدق توجهه إلى 
    فاطر هذه الأرواح وبارئها ، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه 
    القلب واللسان ، فإن هذا نوع محاربة ، والمحارب لا يتم له الإنتصاف 
    من عدوه بالسلاح إلا بأمرين : أن يكون السلاح صحيحاً في نفسه جيداً 
    ، وأن يكون الساعد قوياً ، فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير 
    طائل ، فكيف إذا عدم الأمران جميعاً : يكون القلب خراباً من 
    التوحيد ، والتوكل ،   والتقوى ، والتوجه ، ولا سلاح له 
    .
    والثاني : من جهة المعالج ، بأن يكون فيه هذان الأمران أيضاً ، حتى 
    إن من المعالجين من يكتفي بقوله :  اخرج منه  . أو بقول:  بسم 
    الله  أو بقول  لا حول ولا قوة إلا بالله  ، والنبى صلى الله عليه 
    وسلم كان يقول : " اخرج عدو الله أنا رسول الله 
    " .
    وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ، ويقول : 
    قال لك الشيخ : اخرجي ، فإن هذا لا يحل لك ، فيفيق المصروع ، وربما 
    خاطبها بنفسه ، وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب ، فيفيق 
    المصروع ولا يحس بألم ، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مراراً 
    .
    وكان كثيراً ما يقرأ في أذن المصروع : " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا 
    وأنكم إلينا لا ترجعون " [ المؤمنون : 115 
    ] .
    وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع ، فقالت الروح : نعم ، ومد 
    بها صوته . قال : فأخذت له عصا ، وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت 
    يداي من الضرب ، ، ولم يشك الحاضرون أنه يموت لذلك الضرب . ففي 
    أثناء الضرب قالت : أنا أحبه ، فقلت لها : هو لا يحبك ، قالت : أنا 
    أريد
    
    
    أن 
    أحج به ، فقلت لها : هو لا يريد أن يحج معك ، فقالت : أنا أدعه 
    كرامة لك ، قال : قلت : لا ولكن طاعة لله ولرسوله ، قالت : فأنا 
    أخرج منه ، قال : فقعد المصروع يلتفت يميناً وشمالاً ، وقال : ما 
    جاء بي إلى حضرة الشيخ ، قالوا له : وهذا الضرب كله ؟ فقال : وعلى 
    أي
    
    
    شئ 
    يضربني الشيخ ولم أذنب ، ولم يشعر بأنه وقع به ضرب البتة 
    .
    وكان يعالج بآية الكرسي ، وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع ومن 
    يعالجه بها ، وبقراءة المعوذتين 
    .
    وبالجملة فهذا النوع من الصرع ، وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من 
    العلم والعقل والمعرفة ، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون 
    من جهة قلة دينهم ، وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر ، 
    والتعاويذ ، والتحصنات النبوية والايمانية ، فتلقى الروح الخبيثة 
    الرجل أعزل لا سلاح معه ، وربما كان عرياناً فيؤثر فيه هذا 
    .
    ولو كشف الغطاء ، لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى هذه الأرواح 
    الخبيثة ، وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت ، ولا يمكنها 
    الإمتناع عنها ولا مخالفتها ، وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق 
    صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة ، فهناك يتحقق أنه كان هو 
    المصروع حقيقة ، وبالله المستعان 
    .
    وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به 
    الرسل ، وأن تكون الجنة والنار نصب عينيه وقبلة قلبه ، ويستحضر أهل 
    الدنيا ، وحلول المثلات والآفات بهم ، ووقوعها خلال ديارهم كمواقع 
    القطر ، وهم صرعى لا يفيقون ، وما أشد داء هذا الصرع ، ولكن لما 
    عمت البلية به بحيث لا يرى إلا مصروعاً ، لم يصر مستغرباً ولا 
    مستنكراً ، بل صار لكثرة المصروعين عين المستنكر المستغرب خلافه 
    .
    فإذا أراد الله بعبد خيراً أفاق من هذه الصرعة ، ونظر إلى أبناء 
    الدنيا مصروعين حوله يميناً وشمالاً على اختلاف طبقاتهم ، فمنهم من 
    أطبق به الجنون ، ومنهم من يفيق أحياناً قليلة ، ويعود إلى جنونه ، 
    ومنهم من يفيق مرة ، ويجن أخرى ، فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة 
    والعقل ، ثم يعاوده الصرع فيقع في التخبط .
فصل
    روى ابن ماجه في  
    سننه  من حديث محمد بن سيرين ، عن أنس بن مالك ، قال : سمعت رسول 
    الله صلى الله عليه وسلم يقول : " دواء عرق النسا ألية شاة أعرابية 
    تذاب ، ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ، ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء " .
    عرق النساء : وجع 
    يبتدئ من مفصل الورك ، وينزل من خلف على الفخذ ، وربما على الكعب ، 
    وكلما طالت مدته ، زاد نزوله ، وتهزل معه الرجل والفخذ ، وهذا 
    الحديث فيه معنى لغوي ، ومعنى طبي . فأما المعنى اللغوي ، فدليل 
    على جواز تسمية هذا المرض بعرق النسا خلافاً لمن منع هذه التسمية ، 
    وقال : النسا هو العرق نفسه ، فيكون من باب إضافة الشئ إلى نفسه ، 
    وهو ممتنع وجواب هذا القائل من وجهين . أحدهما : أن العرق أعم من 
    النسا ، فهو من باب إضافة العام إلى الخاص نحو : كل الدراهم أو 
    بعضها .
    الثاني : أن النسا : هو المرض الحال بالعرق ، والإضافة فيه من باب 
    إضافة الشئ إلى محله وموضعه . قيل : وسمي بذلك لأن ألمه ينسي ما 
    سواه ، وهذا العرق ممتد من مفصل الورك ، وينتهي إلى آخر القدم وراء 
    الكعب من الجانب الوحشي فيما بين عظم الساق والوتر .
    وأما المعنى الطبي : فقد تقدم أن كلام رسول الله صلى الله عليه 
    وسلم نوعان : أحدهما : عام بحسب الأزمان ، والأماكن ، والأشخاص ، 
    والأحوال .
    والثاني : خاص بحسب هذه الأمور أو بضعها ، وهذا من هذا القسم ، فإن 
    هذا خطاب للعرب ، وأهل الحجاز ، ومن جاورهم ، ولا سيما أعراب 
    البوادي ، فإن هذا العلاج من أنفع العلاج لهم ، فإن هذا المرض يحدث 
    من يبس ، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة ، فعلاجها بالإسهال والألية 
    فيها الخاصيتان : الإنضاج ، والتليين ، ففيها الإنضاج ، والإخراج . 
    وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين ، وفي تعيين الشاة 
    الأعرابية لقلة فضولها ، وصغر مقدارها ، ولطف جوهرها ، وخاصية 
    مرعاها لأنها ترعى أعشاب البر الحارة ، كالشيح ، والقيصوم ، 
    ونحوهما ، وهذه النباتات إذا تغذى بها الحيوان ، صار في لحمه من 
    طبعها بعد أن يلطفها تغذيه بها ، ويكسبها مزاجاً ألطف منها ، ولا 
    سيما الألية ، وظهور فعل هذه النباتات في اللبن أقوى منه في اللحم 
    ، ولكن الخاصية التي في الألية من الإنضاج والتليين لا توجد في 
    اللبن ، وهذا كما تقدم أن أدوية غالب الأمم والبوادي هي الأدوية 
    المفردة ، وعليه أطباء الهند .
    وأما الروم واليونان ، فيعتنون بالمركبة ، وهم متفقون كلهم على أن 
    من مهارة الطبيب أن يداوي بالغذاء ، فإن عجز فبالمفرد ، فإن عجز ، 
    فبما كان أقل تركيباً .
    وقد تقدم أن غالب عادات العرب وأهل البوادي الأمراض البسيطة ، 
    فالأدوية البسيطة تناسبها ، وهذا لبساطة أغذيتهم في الغالب . وأما 
    الأمراض المركبة ، فغالباً ما تحدث عن تركيب الأغذية وتنوعها 
    واختلافها ، فاختيرت لها الأدوية المركبة ، والله تعالى أعلم .
فصل
    روى الترمذي في  
    جامعه  وابن ماجه في  سننه  من حديث أسماء بنت عميس ، قالت : قال 
    رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بماذا كنت تستمشين  ؟ قالت : 
    بالشبرم ، قال :  حار جار  ، قالت : ثم استمشيت بالسنا ، فقال :  
    لو كان شئ يشفي من الموت لكان السنا " .
    وفي  سنن ابن ماجه  عن إبراهيم بن أبي عبلة ، قال : سمعت عبد الله 
    بن أم حرام ، وكان قد صلى مع رسول الله صلى الله وسلم القبلتين 
    يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " عليكم بالسنا 
    والسنوت ، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام  ، قيل : يا رسول 
    الله ! وما السام ؟ قال :  الموت " .
    قوله :  بماذا كنت تستمشين  ؟ أي : تلينين الطبع حتى يمشي ولا يصير 
    بمنزلة الواقف ، فيؤذي باحتباس النجو ، ولهذا سمي الدواء المسهل 
    مشياً على وزن فعيل . وقيل : لأن المسهول يكثر المشي والإختلاف 
    للحاجة وقد روي :  بماذا تستشفين  ؟  فقالت : بالشبرم ، وهو من 
    جملة الأدوية اليتوعية ، وهو قشر عرق شجرة ، وهو حار يابس في 
    الدرجة الرابعة ، وأجوده المائل إلى الحمرة ، الخفيف الرقيق الذي 
    يشبه الجلد الملفوف ، وبالجملة فهو من الأدوية التي أوصى الأطباء 
    بترك استعمالها لخطرها ، وفرط إسهالها .
    وقوله صلى الله عليه وسلم :  حار جار  ويروى :  حار يار  ، قال أبو 
    عبيد : وأكثر كلامهم بالياء . قلت : وفيه قولان ، أحدهما : أن 
    الحار الجار بالجيم : الشديد الإسهال ، فوصفه بالحرارة ، وشدة 
    الإسهال وكذلك هو ، قاله أبو حنيفة الدينوري .
    والثاني - وهو الصواب - أن هذا من الإتباع الذي يقصد به تأكيد 
    الأول ، ويكون بين التأكيد اللفظي والمعنوي ، ولهذا يراعون فيه 
    إتباعه في أكثر حروفه ، كقولهم : حسن بسن ، أي : كامل الحسن ، 
    وقولهم : حسن قسن بالقاف ، ومنه شيطان ليطان ، وحار جار ، مع أن في 
    الجار معنى آخر ، وهو الذي يجر الشئ الذي يصيبه من شدة حرارته 
    وجذبه له ، كأنه ينزعه ويسلخه . ويار : إما لغة في جار ، كقولهم : 
    صهري  وصهريج ، والصهاري والصهاريج ، وإما إتباع مستقل .
    وأما السنا ، ففيه لغتان : المد والقصر ، وهو نبت حجازي أفضله 
    المكي ، وهو دواء شريف مأمون الغائلة ، قريب من الإعتدال ، حار 
    يابس فى الدرجة الأولى ، يسهل الصفراء والسوداء ، ويقوي جرم القلب 
    ، وهذه فضيلة شريفة فيه ، وخاصيته النفع من الوسواس السوداوي ، ومن 
    الشقاق العارض في البدن ، ويفتح العضل وينفع من انتشار الشعر ، ومن 
    القمل والصداع العتيق ، والجرب ، والبثور ، والحكة ، والصرع ، وشرب 
    مائه مطبوخاً أصلح من شربه مدقوقاً ، ومقدار الشربة منه ثلاثة 
    دراهم ، ومن مائه خمسة دراهم ، وإن طبخ معه شئ من زهر البنفسج 
    والزبيب الأحمر المنزوع العجم ، كان أصلح .
    قال الرازي : السناء والشاهترج يسهلان الأخلاط المحترقة ، وينفعان 
    من الجرب والحكة ، والشربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى 
    سبعة دراهم .
    وأما السنوت ففيه ثمانية أقوال ، أحدها : أنه العسل . والثاني : 
    أنه رب عكة السمن يخرج خططاً سوداء على السمن ، حكاهما عمرو بن بكر 
    السكسكي . الثالث : أنه حب يشبه الكمون وليس به ، قاله ابن 
    الأعرابي .
    الرابع : أنه الكمون الكرماني . الخامس : أنه الرازيانج . حكاهما 
    أبو حنيفة الدينوري عن بعض الأعراب . السادس : أنه الشبت . السابع 
    : أنه التمر حكاهما أبو بكر بن السنى الحافظ . الثامن : أنه العسل 
    الذي يكون في زقاق السمن ، حكاه عبد اللطيف البغدادي . قال بعض 
    الأطباء : وهذا أجدر بالمعنى ، وأقرب إلى الصواب ، أي : يخلط 
    السناء مدقوقاً بالعسل المخالط للسمن ، ثم يلعق فيكون أصلح من 
    استعماله مفرداً لما في العسل والسمن من إصلاح السنا ، وإعانته له 
    على الإسهال . والله أعلم .
    وقد روى الترمذي وغيره من حديث ابن عباس يرفعه : " إن خير ما 
    تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي " والمشي : هو الذي 
    يمشي الطبع ويلينه ويسهل خروج الخارج .
فصل
    في  الصحيحين  من حديث 
    قتادة ، "عن أنس بن مالك قال : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم 
    لعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في 
    لبس الحرير لحكة كانت بهما" .
    وفي رواية : "ن عبد 
    الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما ، شكوا 
    القمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة لهما ، فرخص لهما في 
    قمص الحرير ، ورأيته عليهما " .
    هذا الحديث يتعلق به أمران : أحدهما : فقهي ، والآخر طبي .
    فأما الفقهي : فالذي استقرت عليه سنته صلى الله عليه وسلم إباحة 
    الحرير للنساء مطلقاً ، وتحريمه على الرجال إلا لحاجة ومصلحة راجحة 
    ، فالحاجة إما من شدة البرد ، ولا يجد غيره ، أو لا يجد سترة سواه 
    . ومنها : لباسه للجرب ، والمرض ، والحكة ، وكثرة القمل كما دل 
    عليه حديث أنس هذا الصحيح .
    والجواز : أصح الروايتين عن الإمام أحمد ، وأصح قولي الشافعي ، إذ 
    الأصل عدم التخصيص ، والرخصة إذا ثبتت في حق بعض الأمة لمعنى تعدت 
    إلى كل من وجد فيه ذلك المعنى ، إذ الحكم يعم بعموم سببه .
    ومن منع منه ، قال : أحاديث التحريم عامة ، وأحاديث الرخصة يحتمل 
    اختصاصها بعبد الرحمن بن عوف والزبير ، ويحتمل تعديها إلى غيرهما . 
    وإذا احتمل الأمران ، كان الأخذ بالعموم أولى ، ولهذا قال بعض 
    الرواة في هذا الحديث : فلا أدري أبلغت الرخصة من بعدهما ، أم لا ؟
    والصحيح : عموم الرخصة ، فإنه عرف خطاب الشرع في ذلك ما لم يصرح 
    بالتخصيص ، وعدم إلحاق غير من رخص له أولاً به ، كقوله لأبي بردة 
    في تضحيته بالجذعة من المعز : " تجزيك ولن تجزي عن أحد بعدك " 
    وكقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في نكاح من وهبت نفسها له : 
    " خالصة لك من دون المؤمنين " [ الأحزاب : 50 ] .
    وتحريم الحرير : إنما كان سداً للذريعة ، ولهذا أبيح للنساء ، 
    وللحاجة ، والمصلحة الراجحة ، وهذه قاعدة ما حرم لسد الذرائع ، 
    فإنه يباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة ، كما حرم النظر سداً 
    لذريعة الفعل ، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة والمصلحة الراجحة ، 
    وكما حرم التنفل بالصلاة في أوقات النهي سداً لذريعة المشابهة 
    الصورية بعباد الشمس ، وأبيحت للمصلحة الراجحة ، وكما حرم ربا 
    الفضل سداً لذريقة ربا النسيئة ، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من 
    العرايا ، وقد أشبعنا الكلام فيما يحل ويحرم من لباس الحرير في 
    كتاب  التحبير لما يحل ويحرم من لباس الحرير  .
    فصل
    وأما الأمر الطبي : فهو أن الحرير من الأدوية المتخذة من الحيوان ، 
    ولذلك يعد في الأدوية الحيوانية ، لأن مخرجه من الحيوان ، وهو كثير 
    المنافع ، جليل الموقع ، ومن خاصيته تقوية القلب ، وتفريحه ، 
    والنفع من كثير من أمراضه ، ومن غلبة المرة السوداء ، والأدواء 
    الحادثة عنها ، وهو مقو للبصر إذا اكتحل به ، والخام منه - وهو 
    المستعمل في صناعة الطب - حار يابس في الدرجة الأولى . وقيل : حار 
    رطب فيها : وقيل : معتدل . وإذا اتخذ منه ملبوس كان معتدل الحرارة 
    في مزاجه ، مسخناً للبدن ، وربما برد البدن بتسمينه إياه .
    قال الرازي : الإبريسم أسخن من الكتان ، وأبرد من القطن ، يربى 
    اللحم ، وكل لباس خشن ، فإنه يهزل ، ويصلب البشرة وبالعكس .
    قلت : والملابس ثلاثة 
    أقسام : قسم يسخن البدن ويدفئه ، وقسم يدفئه ولا يسخنه ، وقسم لا 
    يسخنه ولا يدفئه ، وليس هناك ما يسخنه ولا يدفئه ، إذ ما يسخنه فهو 
    أولى بتدفئته ، فملابس الأوبار والأصواف تسخن وتدفئ ، و ملابس 
    الكتان والحرير والقطن تدفئ ولا تسخن ، فثياب الكتان باردة يابسة ، 
    وثياب الصوف حارة يابسة ، وثياب القطن معتدلة الحرارة ، وثياب 
    الحرير ألين من القطن وأقل حرارة منه .
    قال صاحب  المنهاج  : ولبسه لا يسخن كالقطن ، بل هو معتدل ، كل 
    لباس أملس صقيل ، فإنه أقل إسخاناً للبدن ، وأقل عوناً في تحلل ما 
    يتحلل منه ، وأحرى أن يلبس في الصيف ، وفي البلاد الحارة .
    ولما كانت ثياب الحرير كذلك ، وليس فيها شئ من اليبس والخشونة 
    الكائين في غيرها ، صارت نافعة من الحكة ، إذ الحكة لا تكون إلا عن 
    حرارة ويبس وخشونة ، فلذلك رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم 
    للزبير وعبد الرحمن في لباس الحرير لمداواة الحكة ، وثياب الحرير 
    أبعد عن تولد القمل فيها ، إذ كان مزاجها مخالفاً لمزاج ما يتولد 
    منه القمل .
    وأما القسم الذي لا يدفئ ولا يسخن ، فالمتخذ من الحديد والرصاص ، 
    والخشب والتراب ، ونحوها ، فإن قيل : فإذا كان لباس الحرير أعدل 
    اللباس وأوفقه للبدن ، فلماذا حرمته الشريعة الكاملة الفاضلة التي 
    أباحت الطيبات ، وحرمت الخبائث ؟
    قيل : هذا السؤال يجيب عنه كل طائفة من طوائف المسلمين بجواب ، 
    فمنكرو الحكم والتعليل لما رفعت قاعدة التعليل من أصلها لم يحتاجوا 
    إلى جواب عن هذا السؤال .
    ومثبتو التعليل والحكم - وهم الأكثرون - منهم من يجيب عن هذا بأن 
    الشريعة حرمته لتصبر النفوس عنه ، وتتركه لله ، فتثاب على ذلك لا 
    سيما ولها عوض عنه بغيره .
    ومنهم من يجيب عنه بأنه خلق في الأصل للنساء ، كالحلية بالذهب ، 
    فحرم على الرجال لما فيه من مفسدة تشبه الرجال بالنساء ، ومنهم من 
    قال : حرم لما يورثه من الفخر والخيلاء والعجب . ومنهم من قال : 
    حرم لما يورثه بملامسته للبدن من الأنوثة والتخنث ، وضد الشهامة 
    والرجولة ، فإن لبسه يكسب القلب صفة من صفات الإناث ، ولهذا لا 
    تكاد تجد من يلبسه في الأكثر إلا وعلى شمائله من التخنث والتأنث ، 
    والرخاوة ما لا يخفى ، حتى لو كان من أشهم الناس وأكثرهم فحولية 
    ورجولية ، فلا بد أن ينقصه لبس الحرير منها ، وإن لم يذهبها ، ومن 
    غلظت طباعه وكثفت عن فهم هذا ، فليسلم للشارع الحكيم ، ولهذا كان 
    أصح القولين : أنه يحرم على الولي أن يلبسه الصبي لما ينشأ عليه من 
    صفات أهل التأنيث .
    وقد روى النسائي من حديث أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله 
    عليه وسلم أنه قال : " إن الله أحل لإناث أمتي الحرير والذهب ، 
    وحرمه على ذكورها " . وفي لفظ : " حرم لباس الحرير والذهب على ذكور 
    أمتي ، وأحل لإناثهم " .
    وفي  صحيح البخاري  عن حذيفة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه 
    وسلم عن لبس الحرير والديباج ، وأن يجلس عليه ، وقال : " هو لهم في 
    الدنيا ، ولكم في الآخرة " .



0 التعليقات:
إرسال تعليق